«5» دور العقل في التشريع - ب
هذا لا ينفي بطبيعة الحال امكانية الاختلاف حول الحقيقة الواحدة أو حول قيمتها. وهو اختلاف يتأثر - عادة - بالافق الثقافي للفرد، أي تجربته الحياتية ونوعية معارفه ومستواها. فهذه طبعا تضع حدودا لما يفكر فيه الانسان، وتؤثر في رؤيته إلى الاشياء من حوله. رغم انه يبقى قادرا على الانفصال عنها والتفكير في الاشياء بصورة منطقية وموضوعية.
ترتب على ذلك جدل حول امكانية أو تعذر التوصل إلى مفهوم واحد للحقيقة، يتفق عليه الناس. ويقال عادة ان هذا عسير. لكن حتى لو تحقق، فانه ليس قيدا على الحقيقة ذاتها. ثمة على الدوام فرصة لفرد ما كي يصل إلى مفهوم آخر، أو يكشف وجها آخر للحقيقة مختلفا عما اتفق عليه الجميع. بتعبير آخر فان الحقائق موجودة في الواقع الخارجي، وان عقل الانسان قادر على كشفها. لكن هذا الكشف لا يعتبر نهائيا، بل نسبيا أو مؤقتا. وبالتالي فان ما يكشفه عقل واحد، لا يعتبر نهاية للعلم، وهذا رأي معظم الفلاسفة، وقد شرحه الفيلسوف المعاصر كارل بوبر بالتفصيل في كتابه ”منطق البحث العلمي“.
من هنا فان الذين يعارضون حكم العقل يجادلون بأنه لو كان العقل قادرا على كشف الحقائق بصورة مستقلة، لما اختلف الناس في الحكم على الافعال. وانه لو كان الحسن والقبح موجودا في الافعال قبل البيان الشرعي، ولو كان قابلا للكشف بالعقل، لما اختلف حكم المخلوق عن حكم الخالق. بل ولما كان ثمة حاجة إلى البيان الشرعي في مواضع كثيرة. ونعرف ان الاختلاف قائم في كلا الطرفين.
من ناحية أخرى فان احتمال وقوع الخطأ أو النقص من العقل - وهو امر طبيعي ومتوقع دائما - يؤدي ضرورة إلى تجويز الخطأ والعيب في الالزامات الشرعية. والاجدر بالشارع ان يعصم شرعه من اسباب النقص والعيب.
اما رد الاصوليين القائلين بحكم العقل فخلاصته ان حكم العقل واتفاق الناس أو اختلافهم فيه موضوعان مختلفان. كذلك المقارنة بين حكم الخالق وحكم المخلوق. ذلك ان المقصود بالنقاش هو اثبات أو نفي مشروعية الأخذ بحكم العقل على الافعال، وليس قدرة العقل البشري على ادراك علم الخالق أو مراده. ونعلم - بأدلة اخرى عقلية ونقلية - ان علم الشخص حجة عليه معتبرة شرعا، أي ان علمه قناة مقبولة لانتقال القيمة من العالم الشرعي النظري إلى العالم الواقعي. اما المقارنة بين حكم الخالق والمخلوق فليست واردة اصلا، لأننا نعتقد ان الخالق عالم بالواقع لأنه خالقه، فعلمه اصلي ذاتي واحد مطلق أولا وآخرا، وليس ناتجا عن بحث أو استدلال، بخلاف البشر الذين توصف معرفتهم بأنها مكتسبة وطارئة وقابلة للتحول والتغير.
وزبدة القول في المسألة: ان النتائج العلمية التي يتوصل اليها الفرد بالطريق العقلي، قد لا تكون ملزمة لغيره ضرورة. لكنها - بالنسبة اليه على الاقل - اساس مقبول للمعرفة والالتزام. وهو يستطيع وضع استنتاجاته في مصاف الحقائق. مثل هذه الرؤية تتوقف بطبيعة الحال على الاقرار بقيمة الانسان في ذاته، وقيمة جهده الذهني، وقدرته على ان يكون مستقلا، متمايزا عن غيره. هذا رأي الأصوليين. أما الاخباريون فقد اشرت سلفا إلى عدم قبولهم بالاتكال على العقل المستقل في انتاج القيمة الدينية، ومن ثم فهم يعولون تماما على التعريف الشرعي للافعال والمصالح وما يرتبط بها من قيم.
ورأيت رأيا ينقله الشيخ جعفر السبحاني عن السيد صدر الدين الرضوي القمي «ت 1747م»، يقول بالملازمة بين حكم الشرع وحكم العقل، أي يعتبر حكم العقل حجة شرعية، لكنه يميز بين رتبة هذا الحكم ونظيره الوارد في الكتاب والسنة. ويقول في هذا الصدد:
المكشوف عن طريق الملازمة لا يسمى حكماً شرعياً. ولا يترتب عليه الثواب والعقاب.... إذا أدركنا العلة التامة لحكم العقل بوجوب شيء أو حرمته مثلاً، يصح أن يحكم عليه بأن الشارع حكم أيضا مثل حكم العقل عليه. ولكن لما فرضنا عدم بلوغ التكليف إلينا، لا يترتب عليه الثواب، وإن كان يترتب على نفس الفعل شيء من قرب وبعد، فلا يكون واجباً أو حراماً شرعياً.
ويبدو ان هذا هو ايضا رأي السيد محمد تقي الحكيم «1339 1423 ه» الذي يميز بين المدح والذم العقلي وبين الثواب والعقاب الشرعي. ويميل إلى ربط الثاني بوصول البيان الشرعي. ورد على احتجاج الاخباريين باحتمال خطأ العقل قائلا ان طلب الكمال من الناس - في العلم أو العمل - تكليف بما لا يطاق، وهو خلاف اصل التيسير. يعمل المكلف على اداء التكليف بحسب استطاعته المادية والذهنية وهو يقوم بالعمل تقربا إلى الله سبحانه ورجاء لرضاه. فان تم على الوجه المراد من الشارع فبها، وان لم يكن فالمكلف معذور امام ربه، لانه بذل المستطاع لاداء التكليف ونيل الرضا. ورأيت للمرحومين السيد الخميني والشيخ حسين علي منتظري والفقيه المعاصر يوسف صانعي آراء تذهب إلى مدى أوسع وأبعد من هذا، في تقرير حاكمية العقل وحجيته في تشخيص المصالح، سيما في أمور المعاملات، واعتبار أحكامه لازمة ومجزية، بغض النظر عن مسألة الثواب والعقاب الأخروي، الذي لا يخلو من نقاش.