«16» في مفهوم الحرية
هذا على المستوى الفردي. وتجد الامر نفسه على المستوى الكوني. فالبشرية تكافح من خلال الابتكار والتعلم والتجربة للتحرر من الحدود الضيقة للبيئة الطبيعية، المحلية أو الكونية. لولا هذا الكفاح لبقي البشر أسرى لقيود الجغرافيا وحدودها.
بعبارة موجزة، فان الانسان مفطور على الكفاح من اجل الانعتاق من قيوده وحدوده. حقيقة الانسان كمخلوق مفكر متغير، تجعله اكبر من حجمه الجسدي. ولهذا يضيق بحدود الجسد وحدود البيئة التي تحتويه. بقية المخلوقات تقتنع بما تصل اليه وما تحصل عليه. أما هذا المخلوق فهو ”عاجز“ عن القناعة، مدفوع بخياله وليس بقدراته الفعليه. وهذا هو سر توقه للتحكم في عالمه. ما يفعله البشر من كشف واختراع، وكذلك السفر، تعلم التجارب، اللغة، الصراعات، الحروب، والسعي وراء الثروة، كلها أمثلة عما يفعله هذا المخلوق لتجاوز الحدود الضيقة للجسد والجغرافيا... اي كفاحه من اجل التحرر والانعتاق.
لعل هناك من يتحدث عن مبررات لاستعباد الآخرين، مثلما جرى في الولايات المتحدة الامريكية، بعد اعلان الرئيس ابراهام لنكولن الغاء الرق في 1862م. ومثل أولئك الذين يحاولون تبرير هذه الممارسة القبيحة في تاريخ المجتمعات المسلمة القديمة. هناك ايضا من تحدث عن تفاوت طبيعي بين البشر، يسمح باعتبار الرق نسقا طبيعيا أو صحيحا في الحياة. لكن أيا من هؤلاء لن يسمح أبدا بمجرد التفكير في استعباده شخصيا أو استعباد احد من ابنائه. فهم - مثل بقية العقلاء - يرون الرق تهوينا من قيمة الانسان.
هذا بطبيعة الحال نقاش عتيق، فلم يعد الرق قائما في العالم، حتى لو وجد من يبرره. اما موضوع النقاش القائم فيتناول التطبيقات المعاصرة لمفهوم الحرية الفردية والمدنية، أي حرية التفكير والمعتقد، وحرية التعبير والعمل والحركة، وحرية اختيار نمط الحياة والمستقبل والمشاركة في الشأن العام. هذه هي القضايا التي يدور حولها الجدل اليوم.
وردت الحرية عند فقهاء المسلمين كمقابل للرق. فالانسان الحر عندهم هو الذي لا يملكه انسان آخر. وتحدث بعض الفلاسفة والمتصوفة عن الحرية في معنى كمال النفس وتحررها من الخضوع للشهوات، وعبروا عنها بسيطرة النفس العليا اي العقل، على النفس السفلى اي الغرائز، وبعبارة اخرى: تحكم العقل في كل حركات الانسان وافعاله. وهذا ما أشار اليه الراغب الاصفهاني في وصفه للحر: ”من لم تتملكه الصفات الذميمة من الحرص والشره على المقتنيات الدنيوية“، وكذا الجرجاني الذي يقول:
الحرية في اصطلاح أهل الحقيقة: الخروج عن رق الكائنات، وقطع جميع العلائق والأغيار، وهي على مراتب: حرية العامة عن رق الشهوات، وحرية الخاصة عن رق المرادات لفناء إرادتهم في إرادة الحق، وحرية خاصة الخاصة عن رقّ الرسوم والآثار، لانمحاقهم في تجلّي نور الأنوار.
بهذا المعنى فان مفهوم الحرية لا يطابق المعنى الذي نتداوله اليوم. وهو اقرب إلى مستوى روحي تناله نخبة صغيرة من المجتمع، عن طريق العلم والرياضة الروحية، وتكييف النوازع الداخلية للانسان وأسلوب معيشته، حتى ينسجم تماما مع قواعد الاخلاق والفضائل. ومن هنا فان غرضها هو تحرر الانسان في ذاته، وليس حريته من قهر المحيط. انها - من بعض الوجوه - تعبير عن فكرة الكمال الانساني التي تحدث عنها الفلاسفة في قديم الزمان.
اما الحرية في المفهوم المعاصر، فلا تتعلق بداخل الانسان، بل بمحيطه. وابسط تعريفاتها هو ما وصف بالتعبير السلبي، وفحواه كون الانسان محميا بالقانون من التدخلات الاعتباطية في حياته واراداته. والمقصود بالاعتباطي هو الاعمال التي يقوم بها الناس وتتضمن الزاما لآخرين باراء أو افعال لا يريدونها، أو منعهم مما يريدون، من دون الاستناد إلى قانون يسمح بهذا التدخل. وهذا يشمل ايضا تدخل الدولة خارج اطار القانون. كما يشمل التعسف في استعمال القانون على نحو يخرق الحريات الفردية.
بعبارة اخرى فان الحرية في هذا المعنى تعادل استقلال الفرد. بموجب المفهوم المعاصر للحرية، فان كل فرد يملك مساحة من الحياة الفردية المستقلة، التي لا يسمح بتدخل الدولة فيها عن طريق التقنين. وهذه تسمى بالمجال الخاص أو الشخصي، وهو خارج عن نطاق القانون أو سلطة المجتمع. وان هذه المساحة يجب ان تكون محمية بالقانون ضد تدخلات الاخرين مهما كانت مبرراتها.
الواضح اذن اننا ازاء مفهومين مختلفين للحرية. مفهوم يصرف معنى الحرية إلى سيطرة الانسان على ميوله وغرائزه، ومفهوم يصرفها إلى استقلال الفرد من قسر الاخرين وتدخلهم الاعتباطي في حياته وخياراته. ومن البديهي ان من يؤمن بالأول لا يعتبر المفهوم الثاني حقيقيا أو ذا قيمة. ولذلك فربما لا يعيره اي اهتمام. بعبارة اخرى فان الخلاف حول الحرية لا يتناول تطبيقاتها فقط، بل هناك ايضا خلاف في المفهوم والقيمة ذاتها.
تمايز مفهوم الحرية عند الجماعات السياسية، سببه الرئيس هو اختلاف تقدير هذه الجماعة أو تلك لأولوية الحرية كقيمة وممارسة على غيرها من الخيرات الاجتماعية. نعلم على سبيل المثال ان الماركسيين سخروا من مفهوم الحرية الليبرالي، واعتبروه طموحا بورجوازيا لا ينفك عن ارادة الهيمنة واستغلال الطبقات الكادحة. وخلاصة رأيهم في هذا السياق ان الحرية واحدة من حقوق الافراد، لكن الاهم منها والسابق عليها، هو تحقيق العدالة الاجتماعية للجميع. مبرر تأخير قيمة الحرية عندهم، هو انها ستبقى بلا معنى طالما كان الانسان جائعا أو فقيرا معدما. لا يستطيع الانسان التمتع بحريته طالما كان مفتقرا إلى ضرورات الحياة الأولية مثل الغذاء والدواء والمسكن.
واشتهر العهد الناصري في مصر بالشعار المعروف ”لاصوت يعلو فوق صوت المعركة“. ويقول دعاته ان حرية الفرد ستبقى مجروحة، طالما بقيت أرضه محتلة من قبل العدو. كان تحرير الارض أولى عندهم من تحرر الانسان.
وفي وقتنا الحاضر تقف شريحة كبيرة من الاسلاميين التقليديين ضد دعاة الحرية. لانهم يرونها طريقا إلى انفلات الزمام، وتدهور المعايير والاعراف اللازمة لصيانة اخلاقيات المجتمع ومظهره الديني. ولهذا يقترحون جملة من الضوابط لمنع الانفلات أو نفوذ الثقافة المعادية. هذا بالطبع يستدعي تدخلا متزايدا من جانب الدولة، يقود بالضرورة إلى تضييق مساحة الحريات الفردية. من يرى هذا الرأي لا يعارض تقليص مساحة الحرية، لان الخيرات التي يخشون عليها ارفع قيمة من حريات الأفراد.
نحن لا نتحدث عن الحرية كسلعة سياسية تمنحها الدولة او يمنحها المجتمع. فهي حق لكل فرد قبل ان يوجد المجتمع وقبل ان تولد الدولة. انها اعلى مرتبة من كل القوانين والعلاقات الاجتماعية. ومن هنا فان تحديدها أو ضبطها يستوجب ان يكون مبنيا على تبرير يعادل في قوته قوة الحق الأصلي. وان يكون هذا التحديد او الضبط مؤقتا ومشروطا بالتعويض، لأنه كما قلت حق لكل فرد، لا يجوز حجبه او تحديده دون مقابل مناسب. وقد كرست فصلا خاصا في كتابي ”رجال السياسة“ لشرح هذا المفهوم، اي ”الحرية باعتبارها حقا“. وهذا الفصل منشور ايضا على مدونتي الشخصية.