«28» اللغة والانفتاح
في الماضي كما في الحاضر، تتفاعل الامم مع بعضها وتتقدم. لولا الاسواق الامريكية لما تحولت اليابان وكوريا واخيرا الصين، الى دول مزدهرة اقتصاديا ومتقدمة تكنولوجيا. ولولا هجرة العلماء والشباب المبدعين من اسيا واوربا لما قادت الولايات المتحدة الثورة التقنية المعاصرة في العالم. نعرف اليوم ان اللغة الانكليزية هي اغنى لغات العالم في الانتاج العلمي والابداعي، لكن لو تتبعت من يكتبون بهذه اللغة، لوجدت ان اكثرهم جاء من مجتمعات لا تتحدث الانكليزية. لو تبنت المجتمعات الانكلو ساكسونية القيود التي يتحدث عنها دعاة الاصالة والتاصيل، لما زاد الانتاج العلمي بلغتهم عن مثيله في لغة البشتون أو التيغر.
الذين يدعون الى التشدد في الاخذ بما عند الاخرين من معارف، يضعوننا امام خيار عقيم، فحواه ان نقبل بالتخلف كي نحافظ على ايماننا واخلاقنا. لكننا نعرف بالعقل البسيط ان الايمان الذي ينهار بسبب زيادة العلم ليس الا عباءة خلقة، وليس هو ذات الايمان الذي عبر عنه القران بالكلمة الطيبة التي اصلها ثابت وفرعها في السماء. وتكفينا تجربة العقود الماضية التي مرت علينا ونحن نحارب طواحين الهواء، التي نسميها احيانا بالغزو الفكري، ونسميها احيانا اخرى العولمة، أو ما شئنا من الاسماء التي تلعب كلها دور الجدار الذي يحجب عن اعيننا حقيقة ذاتنا المثقلة باعباء الخرافة والتبرير والخوف من المكابدة والاكتشاف.
النقطة الثانية: ان فارق اللغة قد يعتبر - عند بعض الناس - معيقا للتواصل والتفاعل العلمي الضروري لانتاج العلم وتوطينه. لكنه بالتأكيد ليس المشكلة الكبرى. وقد رأينا دولا مثل الصين وروسيا على سبيل المثال، ضربت شوطا بعيدا في توطين العلم وانتاجه، رغم ان عدد من يجيد اللغات الاجنبية ضئيل نسبيا. كذلك الحال في اليابان في الفترة السابقة لنهاية الحرب الكونية الثانية. زبدة القول ان انتشار اللغات الاجنبية مفيد جدا وقد يصل الى حد الضرورة. لكن عدمه لا يعيق التحول الى مجتمع منتج للعلم، كما ان الانتشار لا يؤدي - أوتوماتيكيا - الى ذلك. كي نتحول الى مجتمع منتج للعلم، فاننا بحاجة الى استراتيجية وطنية أو قومية تستهدف خلق تيار عريض يدور حول هذه الغاية ويسعى اليها. وهو يقتضي تخصيص الكثير من المال، وتصحيح سلم القيم على نحو يجعل لأهل العلم مكانة رفيعة في المجتمع، كما يجب اقرار حرية التفكير والتعبير والنشر في اقصى مستوياتها وأبعادها، واخيرا ربط الاعمال الرسمية والنشاطات الاجتماعية بالبحث العلمي، على نحو يحول العلم الى جزء لا يتجزأ من الحياة اليومية للمجتمع والنشاط اليومي للدولة والسوق.
أعود الى موقع اللغة من هذا الحراك المطلوب. حيث أرى ان النهوض العلمي بحاجة الى اعادة الاعتبار للمجتمع كوعاء للعلم. بمعنى تشجيع الناس جميعا على التعاطي والتفاعل مع النشاطات العلمية وما يتعلق بها من تعبيرات وأدوار وحاجات ومنتجات. حين يصبح المجتمع حاضنا للعلم، فسوف ندخل الظرف الذي يمكن وصفه بالعصر العلمي. اذا كنا نفكر بهذا الاتجاه سيواجهنا سؤال بديهي: هل يمكن لمجتمع ان يشارك في علم بلغة غير لغته، أو ينتج علما بلغة غير لغته؟. جوابي على هذا ان العلم وانتاج العلم جزء من النشاطات الثقافية، مثل الفولكلور والفن وما اشبهه، وهو غير ممكن الا بلغة الثقافة المحلية. بعبارة اخرى فان المجتمع يعبر عن ثقافته بلغته فقط، وهو لا يستطيع التعبير عنها بلغات أخرى. فاذا اعتبرنا التداول العلمي جزء من الحياة الثقافية، فان حيويته مشروطة بقابلية المجتمع للتعبير عنه بلغته الخاصة.
ومن هنا فاني اظن ان ما نحتاجه ليس فقط تشجيع طلابنا على تعلم اللغات الاجنبية، بل الاهتمام المكثف بالترجمة ونقل كل ما يمكن من الادبيات الخاصة بالعلوم في اللغات الاجنبية الى اللغة العربية، اضافة الى جعل التعليم الجامعي باللغة العربية، بما فيه تعليم العلوم كالطب والهندسة وامثالهما.
زبدة القول ان الدعوة لحركة ترجمة واسعة هو عمل مرحلي، يستهدف جعل العلم متوفرا للجميع، كي يصبح المجتمع كله منفتحا على العلم الحديث وحاضنا له ومن ثم مشاركا فيه.