«34» الحداثة
تركز دعوى الحداثة على قابلية الانسان لصياغة ظرفه الحياتي، وتطوير بيئته والسيطرة عليها، اعتمادا على المعرفة العلمية والتجربة والاستخدام السليم للتقنيات التي يطورها لحل مشكلاته. تدعو الحداثة الى اختبار كل وجه من وجوه الحياة الانسانية لكشف سبل التقدم، وما يعترضها من معوقات، وتطوير حلول علمية لازاحتها. وهي اخيرا تنبذ السكون، وتركز على التغيير المتواصل باعتباره الطريق الطبيعي للارتقاء، وترحب بكل مختلف عن السائد باعتباره نافذة محتملة على مستقبل افضل.
وبالمقارنة فان التحديث هو العمل الهادف الى ارساء القيم الاساسية للحداثة في الحياة الاجتماعية، أي التاكيد على محورية الانسان الفرد كسيد للكون، وهدف للتشريعات، وصانع للحياة. والتركيز على العلم كاساس لاتخاذ القرار في المجالين الفردي والاجتماعي. والنظر الى الحاضر باعتباره اعلى قيمة من الماضي واكثر كمالا، واعتباره النطاق الاساس لكل الجهود التي غرضها صياغة المستقبل.
من الناحية المبدئية نعتبر الحداثة مرحلة متطورة في تاريخ الانسانية وسعيها للارتقاء. لكنا لا ناخذها كقالب جاهز. بل نتعامل معها تعاملا نقديا، وهدفنا هو اعادة انتاجها ضمن الشروط المادية والثقافية الخاصة بمجتمعاتنا. قد نقبل بعض اجزائها ونرفض الاخر، وقد نقدم بعضها ونؤخر الاخر أو نعدله. في كل الاحوال نعتبر الحداثة ”معرفة“ و”تجربة“ مفتوحة لاي جهد انساني، بغض النظر عن الاطارالحضاري الذي ظهرت فيه وتطورت.
التعامل الانتقائي مع الحداثة يختلف عن التعامل النقدي. في التعامل الانتقائي يقتطع الانسان اجزاء وينقلها، وهذا هو الجاري في المجتمعات العربية. فنحن ننقل نظم البناء الغربية كما هي، وننقل التقنيات المختلفة وننقل النظم الاقتصادية والمالية من دون تعديل. اما الذي ندعو اليه فهو اعادة انتاج الحداثة، اجزاءها أو مجموعها، ضمن الشروط الثقافية والمادية الخاصة بنا. اعادة الانتاج تاتي ضمن قراءة نقدية تتعلق بقيم الحداثة نفسها وبموضوعات اشتغالها المقترحة في آن واحد. في الاقتصاد مثلا نحن ننقل قوانين عمل تطورت في اطار فلسفة اقتصادية - اجتماعية مختلفة، وقد لا تلبي حاجاتنا، لا سيما بالنظر الى الفارق الكبير في الثقافة وفي مستوى النمو بين مجتمعاتنا والمجتمعات الصناعية. كان من الافضل لنا ان ندرس علم الاقتصاد من جهة وندرس حاجاتنا من جهة اخرى، فنعدل قوانين العمل تلك أو نبتكر بدائل كي تستوعب وتلبي هذه الحاجات، لا ان ننقل نسخة كاملة عن البنك الاوربي والبيروقراطية الاوربية الخ. خلاصة القول اننا بحاجة الى انتاج حداثتنا الخاصة، ويمكن ان تكون القراءة النقدية للحداثة الاوربية هي الخطوة الاولى في هذا الطريق.
لا نتكلم عن الغرب بالمفهوم الجغرافي، بل بالمعنى الثقافي والزمني. نحن بعبارة اخرى نتحدث عن التجربة وارضيتها الفلسفية والمعرفية، سواء جرت هذه التجربة في بريطانيا أو اليابان أو في مصر أو السعودية أو أي مكان آخر. الغرب الثقافي والحضاري رمز لمرحلة تاريخية، هي الاخيرة في تاريخ البشرية وسعيها المتواصل من اجل التقدم وتسخير الموارد التي أودعها الله في الكون، وطلب من عباده استثمارها ﴿هو انشأكم في الارض واستعمركم فيها﴾. فاذا اردنا النهوض فان نقطة البداية هي استيعاب ما وصل اليه الغربيون، وفهم مصادر القوة التي قادت الى هذه الحضارة أو تولدت في اطارها، ثم العمل على اعادة انتاجها ضمن نسيجنا الثقافي الخاص، وتبعا لحاجاتنا ومصالحنا الخاصة.
بين ابرز مصادرالقوة التي كشفت عنها تجربة الغرب، اشير الى التفكير العلمي والعقلاني، وانتاج العلم، والابداع في مجال الاقتصاد، وتمكين المجتمع من المشاركة الفاعلة والمؤثرة في صياغة الحياة العامة والمستقبل. وامامنا امثلة قريبة مثل كوريا الجنوبية التي بدأت بتقليد الصناعة الغربية، وهي اليوم تنافسها في عقر دارها. وقبلها اليابان وسياتي في السنوات القليلة القادمة مثال الصين، وبينهما تجارب عديدة من ماليزيا الى البرازيل.
في كل هذه الاقطار جرى التركيز على الانسان باعتباره منتج العلم والمدنية. ونحن اليوم نشكو من ان النشاطات التي تسمى تنموية، تركز على الاشياء وتهمل الانسان. فنحن نفتقر الى اجماع حول محورية الفرد وحول حقوق الانسان، ولا سيما حرية التفكير والتعبير، كما نفتقر الى التربية المدرسية التي تبني العقل العلمي والتفكير العقلاني، واخيرا نفتقر الى الاطارات القانونية والمؤسسية، التي تسمح بمشاركة الافراد في صياغة النظام الاجتماعي الذي يعيشون فيه، والمستقبل الذي يسعون اليه.
يمكن لنا ان نتعلم الكثير من التجربة الغربية، نتعلمها ثم نطور تجربتنا الخاصة، التي قد تكون مرحلة موازية، وقد تاتي بمستوى ارقى مما وصل اليه الغربيون. لكن في كل الاحوال لا يمكن الابتداء من الصفر، ولا يمكن اغفال تلك التجرب القيمة، سواء احببناها ام كرهناها.