«44» التجربة الايرانية
قام الإمام الخميني رحمه الله بالجمع بين عناصر النظرية الشيعية التقليدية، وعناصر من النموذج الديمقراطي الغربي، بعدما رأى ان هذا التركيب هو الوحيد الممكن في دولة حديثة. وبناء عليه فان النظام الإيراني يقوم على تركيب من عناصر ديمقراطية تعالج بالقياس إلى أصلها المعرفي الغربي، وعناصر فقهية تقليدية تعالج بالقياس إلى أصلها الديني.
بالنسبة لبعض الباحثين، فان هذا نموذج معقول لديمقراطية دينية، ضمن الظروف الموضوعية الراهنة للمجتمع الإيراني. وبعضهم يراه مجرد خطوة في الطريق الى ديمقراطية كاملة. اما التيار الديني التقليدي، وبعض رجاله من الحاكمين والنافذين حاليا، فيرى أن السيد الخميني قد ذهب بعيدا في التاكيد على دور الشعب، وكان عليه أن لا يفعل. لان الدور المحوري للشعب يتعارض مع نظرية الإمامة. وحسب تصريحات آية الله مصباح يزدي، وهو من ابرز دعاة التيار التقليدي المحافظ حاليا، فان الشعب لا دور له في الحكم الديني سوى مناصرة الفقيه، وليس له حق انتخابه، وهو يرى أن الجمهورية بالمعنى المعروف، أي كونها إطارا لسيادة الشعب، ليست من الدين في شيء.
السؤال الجوهري هو: هل هذا الترتيب هو الذي يحقق سيادة الأمة؟. في ظني انه لا يحقق سيادة الأمة بل سيادة النخبة. ذلك ان جوهر مفهوم سيادة الأمة يكمن في تمثيل النظام السياسي لارادتها الصريحة المعبر عنها بصورة نظامية. فيما يخص اختيار الولي الفقيه مثلا فان هذا العنصر غير متحقق، لأن النقاش حول المرشحين لهذا المنصب لا يجري بين الناس بل بين اعضاء مجلس الخبراء الذين يختارون الولي الفقيه. وقد أعطى الدستور لمجلس صيانة الدستور حقا مطلقا في الموافقة على المرشحين لهذا المجلس ومجلس الشورى ومنصب رئاسة الجمهورية، وتبعا لذلك فقد تأسس عرف يقضي بأن تقتصر عضوية مجلس الخبراء على رجال الدين الذين يحتمل انهم بلغوا رتبة الاجتهاد. فهو اذن ليس مفتوحا لعامة الناس، وليس لعامة الناس الحرية في اختيار من يشاؤون لتمثيلهم في هذا المجلس.
وتظهر اهمية هذه النقطة اذا علمنا ان الولي الفقيه يملك - بموجب الدستور والعرف الساري - صلاحيات شبه مطلقة في كل شيء تقريبا. كما ان التجربة الفعلية، سيما منذ انتخاب السيد محمد خاتمي لرئاسة الجمهورية في 1997، أظهرت ان هذه الصلاحيات ليست مجرد وصف عرفي، فهي تستعمل بفاعلية من جانب الولي الفقيه لتحديد اتجاهات الحياة السياسية وحركة الدولة والمجتمع، على نحو يقصي أي رأي مختلف او اتجاه سياسي معارض.
من هنا أستطيع القول دون تحفظ ان النظام الدستوري للجمهورية الاسلامية لا يحقق سيادة الأمة، قدر ما يحقق سيادة النخبة القوية. لكن المشكلة لا تكمن فقط في النصوص الدستورية، بل أيضا في الاعراف السياسية والتفسيرات المنحازة للنص الديني.