آخر تحديث: 24 / 4 / 2024م - 11:56 م

التعليم الإبداعي.. الحاجة والإمكانية

ليالي الفرج * صحيفة الشرق

صار مفهوم الإبداع يتكرر في كثير من مناحي حياتنا المعاصرة، ويكاد الراهن الإنساني أن يكون مشدوداً إلى أي حديث يرتبط بالإبداع وبحركة ومسيرة المبدعين التي تستحضرها الذات كعامل مهم في خريطة التحفيز الذاتي والجمعي خلال التحولات المعرفية المتسارعة التي تعم مظاهر الحياة وترتبط بتفاصيلها لحظة بلحظة.

كل هذا تحتّمه الأهمية والضرورة التي ترتبط بحياة الإنسان، وتصنع خطواتها المجتمعات القادرة على مواجهة التحدّيات، بجميع أشكالها. ولهذا تنطلق لديهم مختلف المساعي والخطط من أجل إحراز أولى درجات النجاح الذي يمتلك القدرة على النموّ والوصول إلى نقطة الهدف بقوة وذكاء.

وتبرز القدرة على ابتكار الحلول لمواجهة المشكلات في كل مجتمع كعنصر محوري وحيوي في استراتيجيات الأمم المتقدمة والمجتمعات المتطورة. وهذا أهم ما يضمن لهم البقاء أولاً والتميز تالياً. ويتشكّل الإبداع كعملية اكتسابية متطورة معرفياً وإنسانياً، فتنشط المجتمعات التي تنجح في حركة إدارة مواردها البشرية، واكتشاف موارد اقتصادية وتنموية وإنسانية تصل بها إلى قمم السطوع التي تعانق المشهد الإنساني بكلّ حيثياته، من خلال التوظيف البصير لجميع الأدوات العلمية والفنية بشكل يتجاوز السائد الكاسد إلى الإبداع الرائج.

إن مجتمعاتنا الراهنة، هي اليوم، بحاجة ملحّة للانتقال الحقيقي إلى فريق المجتمعات المبدعة، لنكون لاعباً يصنع اللعب بصورة مهارية ترمي بالبصر إلى أبعد مجال للرؤية الاستراتيجية، ليتماهى البصر في بصيرة نافذة، تتكامل في روافدها الرؤية المجهرية الصغريّة، كما تنفتح في مدارات فضائها الرؤية التلسكوبية التي تسعى لاختراق الحجب التي تمنع من وصول فعليّ لأشعة الأمواج التي يتداخل فيها الكهربائي بالمغناطيسي، رغم أنها بين ذرات طبقات فضائنا. وحين يعرّفون الإبداع بأنه القدرة على إيجاد عدة حلول للمشكلة الواحدة، أو القدرة على افتراض عدد من المشكلات المحتملة مع ابتكار عدة حلول لها، فإن هذا يضعنا أمام سؤال يختصر لنا كل المسافات، وهو كيف لنا أن نصنع إبداعاً استراتيجياً لمجتمعاتنا. نعم، فبمقدار ما ننتج في صناعة استراتيجية إبداعية، يرافق ذلك فجر واعد من الإبداع الاستراتيجي. والتعليم المبدع طريق يبحث عنه كثيرون، ولكن لا يصله إلا من لديهم القدرة على الإبحار في محيطات العلم والمعرفة والفنّ والتنمية وصناعة المجتمع المبدع. ولكن التعليم يتطلب تعلماً، ولا يأتي متعلم مبدع، إلا بوجود معلم مبدع أيضاً.

وبعيد حديث لوزير التعليم في بلادنا الدكتور محمد العيسى بيّن فيه تضجره من قضية التلقين التي يصفها أحد أساتذة الاجتماع بأنها ليست سوى «تقيؤ للمعلومات»، وبرغم قسوة التعبير الممتعض من تشبث التعليم في مجتمعاتنا بهذا النوع الذي لا ينكر فضله خلال مراحل ازدهاره، ولعل ذات الامتعاضيين واحدة؛ فتسبب حديث الدكتور العيسى في حالة فوران هاشتاقي في واقعنا الافتراضي، إلى أن جاء تصريح آخر له يبين أن قوله الأول كان في سياق محدد، وهدأت نفوس المشتغلين بمهنة التعليم إثر ذلك، بالرغم من أن ما يشهده الجميع من سلسلة متواصلة في قضايا التعليم والمعلمين، التي يبدو أن منها قضية التأمين الصحي التعليمي التي ملأت الدنيا وشغلت الناس، ولا يزال المعلمون والمعلمات يتحدثون عن حالة يصفونها بالغبن.

ولأن حديثنا أساساً عن الإبداع التعليمي، فإن التشبّه بالمبدعين أو ما استحدثوا له من مسميات مثل مفهوم النمذجة والتنمذج صار من مقتضيات النظرية الإبداعية التي تمثلتها اليابان في طريق عودتها إلى ركب العلوم والصناعة الحديثة. ولدى مجتمعاتنا تقتضي جميع المعطيات المعاصرة أن تتوسع مواردنا الاقتصادية، كما حدث بما ظُنّ أنه معجزة في بعض البلدان مثل ماليزيا وكوريا الجنوبية، وهو معجزة بالفعل؛ حيث لم تكن هناك موارد اقتصادية تتيح لهما التميز والحصول على العلامة الكاملة في اختبار القدرات المبدعة عالمياً. لكنّ ما حدث هو التوجه إلى الاستثمار في حقول التعليم المبدع الذي يجعل موهبة اليوم عالم الغد، ويرفد الحياة بما يحقق لهم هذه الكاريزما التي غدت شعاراً في الآفاق، وصارت أسماء شركاتهم الكبرى من أوسع مصدّري السلع التي تتناول أيدينا بكل شوق ملأت أرجاءه ثقافة الاستهلاك «المتميز».

عندما يصل تعليمنا بكل أشكاله وأنماطه وأدواته إلى الفضاءات الإبداعية بصورة صحيحة، فإنّه يصح لآمالنا أن تنقدح على خطى الإبداع. أما حينما تمضي السنون، ورحى الحديث عن اهتمامنا بالإبداع تتواصل، بينما الواقع يشير إلى غير ذلك، فهنا المشكلة واضحة، ونقطة على السطر.

إن جامعاتنا مسؤولة عن صناعة الإبداع ليكون لغةً يتقنها أولئك الذين يتعلمون في الكليات المرتبطة بحقل التعليم. وهكذا طلاب التعليم العام يجب أن يتعلموا بطلاقة وانسيابية وتحفيز كيف يستكشفون وكيف يتقنون إثارة الأسئلة، وكيف يجيدون ابتكار الحلول والأفكار كما يمارسون التجريب، وهذا ما ينمو معه الحس الإبداعي الذي نجد كثيراً منه يتدفق على أسئلة أطفالنا وهم يتساءلون كفلاسفة صغار، وربما لا يشبع نهم سؤالهم جواب سطحي، وهذا ما يحدث حين يجيبون ببراءة الأطفال ولكنهم يفكرون كتفكير الفلاسفة.

إنّ الحاجة أمّ الاختراع، والابتكار، والاستكشاف، وصناعة الحلول، وتوليد الأفكار، وبعد كل احتضان لمنظومة الإنسان والعلم وأدوات الحياة هي أم الإبداع.

كاتبة رأي في صحيفة الشرق السعودية
شاعرة ومهتمة بترجمة بعض النصوص الأدبية العالمية إلى العربية ، ولها عدَّة بحوث في المجال التربوي.