آخر تحديث: 16 / 4 / 2024م - 4:10 م

في معنى أن يكون المرء كاتبًا

محمد الحرز * صحيفة اليوم

أقل مراتب الثقافة عند الإنسان في الزمن المعاصر هو أن يكون كاتبًا!! هل هذه المقولة صادمة للكثيرين كون الكاتب في أي مجتمع له ارتباط وثيق بالتنوير الثقافي والفكري والاجتماعي وبالتالي ارتباطه بأقل المراتب في الثقافة ينافي منزلته وقيمته في واقعه الاجتماعي؟. هذا التناقض بين المنزلتين، ما أسبابه وما دواعيه وما أهم المبررات التي نتخذها ذريعة في تثبيت فكرة التناقض تلك؟

ينبغي أولا أن نرفع الالتباس عن جملة من المصطلحات التي تشترك مع مفهوم الكاتب في الدلالة والمعنى؛ كي نخلص في النهاية إلى المقصود تحديدا من الفكرة الكامنة خلف مقولة الكاتب في ارتباطه بأدنى المراتب في سلم الثقافة.

أول المصطلحات هو المثقف. حيث التداول المزعج لهذه الكلمة في جل الخطابات أفقدها الكثير من أصالتها، وأربك المعنى داخلها، وهو مصطلح لم ينشأ إلا في سياق الثقافة الغربية في القرن التاسع عشر مدفوعا بفكرة التنوير الذي ارتبط بأسماء كبار مفكري القرن الثامن عشر. بينما في الثقافة العربية الإسلامية لا توجد للمصطلح مرجعية تتصل به أو تستند عليه. يمكن القول إن له نظائر يمكن جلبها، حيث كانت تؤدي نفس وظائفه ومهامه كالفقيه أو العالم أو المتكلم أو الفيلسوف، وهذا ما حاول الجابري التأصيل له في كتابه «المثقفون في الحضارة العربية». لكن ما يهمنا هنا هو شبه غياب تداول كلمة المثقف في التراث الإسلامي الوسيط إزاء كلمة الكاتب التي ظل حضورها زاخرًا ومنوعًا في الكثير من المدونات والقواميس والكتب الأعلام، وكانت دلالاتها الكبرى أكثر ما ارتبطت بالمجال الأدبي تأريخا ونقدًا وتوثيقًا، رغم ما كانت لهذه الكلمة من دلالة قدحية في بداية تشكل الخطاب الإسلامي في قرونه الأولى.

ثاني المصطلحات المفكر وهو دائما ما يتماهى في دلالاته مع المثقف؛ كونه أحد المصطلحات الحديثة التي تفرعت من التحولات الكبرى في المعرفة والاجتماع وباقي فروع العلوم الإنسانية الأخرى. لذلك دائما ما نرى الكثير من الباحثين يسحب هذا المصطلح بأثر رجعي على حقب تاريخية عاش فيها بعض المشهورين من الكتاب الكبار.

دعونا الآن نستخلص النتيجة. الكاتب بدلالة ما سبق له حضور في عمق التراث، وتنوع حضوره في شتى مجالات المعرفة من حضوره في دواوين السلطان في السياسة أو القضاء إلى المؤرخين والأدباء لهو دليل على القيمة التي كانت تكمن خلف دلالة الكلمة على المستوى السياسي والثقافي والاجتماعي. بينما لو انتقلنا إلى الزمن المعاصر فهل جرى على المصطلح تحولات أدت به بالتالي إلى التبخيس من قيمته في مجال تداوله الاجتماعي والثقافي؟

في ظني نعم. حدثت تحولات كبرى لا يسع المجال هنا للتفصيل فيها. لكن حتى نوضح التناقض الذي صدرنا به المقال يمكن الإشارة إلى عامل واحد وهو ارتباط الثقافة وطرق انتشارها بوصفها معلومة بآليات مواقع التواصل الاجتماعي «social media». وبوصفها مجرد معلومة ذات بعد تراكمي جعل من فكرة الكتابة مجرد تراكم كمي لمعلومات وما على المرء سوى تنضيدها أو تنسيقها دون الارتفاع بها إلى مصاف الوعي والتحليل. وهذه هي القيمة السطحية المرتبطة بمصطلح الكاتب في اللحظة الراهنة.