آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 4:57 ص

تجليات رمضانية - 2

الشيخ حسين المصطفى

لا توجد أمة من الأمم إلا ولها عباداتها الخاصة بها.

وقد حلّت العبادة في الإسلام محلَّ العبادة في العصر الجاهلي؛ فكانت من قبيل: التسبيح والتنزيه والحمد والركوع والسجود بين يدي الله «= الصلاة»، أو التدريب على التحكم بشهوات النفس «= الصوم»، أو الإنفاق والإحسان في سبيل الله «=الزكاة»، أو مركبة من التضحية والزيارة والاعتكاف والتضرّع «= الحج»،... الخ. ولقد كانت هذه الأعمال - في نظر المسلمين - نحو اعتراف وإقرار بألوهية الله «=العبادة».

وتصف السيدة فاطمة الزهراء الصوم بقولها: ”والصيامَ تثبيتاً للإخلاص“ فالحكمة البارزة للصيام هي تثبيت الإخلاص، ولا يعني بالضرورة حصر فائدة الصيام بذلك. ولكن في الصيام ميزة لا تتوفر في غيره من العبادات؛ وهي كونه عملاً عبادياً قوامه الترك، بحيث لا يُترك فيه مجال للرياء والسمعة.

فالصوم هو عبارة عن ترك مجموعة من المفطرات، سواء أكان الشخص صائماً أو كان إمساكه لغرض آخر. أما العبادات الأخرى فهي تختلف في هذا الجانب.. ومن هنا فإنَّ الذي يؤدِّي هذه العبادة على مدى شهر كامل سيكون عمله هذا تمريناً على الإخلاص، إذ أنَّ تكرار المرء لعمل معيِّن كلَّ يوم طوال شهر من الزمن يجعل منه مَلَكة. ولهذا فإنّ الصيام يثبِّت الإخلاص في نفس ابن آدم، وهذه الفائدة تترتب على الصيام أكثر من ترتبها على سائر العبادات.

والإخلاص لله عزَّ وجلَّ هو من أكبر عوامل النهوض بالأمّة واستنقاذها من واقعها المرير؛ فإنَّ المخلص يضحي بكل شيء لخدمة مصالح الإسلام والمسلمين، أما غير المخلص فيضحي بمصالح الدين والأمة من أجل أن يعيش حياته الخاصة به ولا تعنيه حياة غيره. يقول الرسول الكرم ﷺ: ”أما علامة المخلص فأربعة: يسلم قلبه، وتسلم جوارحه، وبَذَلَ خيره، وَكَفَّ شره“. ولذا ترى أنّ المخلص يملك من التقوى ما لا يملكها غيره..

بل إنَّ الشهادة لله قائمة على مبدأ الاخلاص في العمل، ولهذا فسرته السيدة الزهراء بقولها: ”كلمة جعل الإخلاص تأويلها“.

وبحسب التعبير القرآني، فإنّ «التأويل» يعني «المآل». والشيء الذي تكون عودته ونهايته بل وحقيقته عائدة له يعتبر تأويلاً لتلك الحقيقة.

وهذه الجملة تبين أنّ التوحيد إذا لم يتعد مرحلة الفكر إلى مرحلة العمل، وتوقف في مرحلة التصور ولم يتحقق في مرحلة حياة الإنسان، فإنه لا يعتبر توحيداً حقيقياً.

ولذا يوجد أناس ووجوداتها مشركة! وعبيداً لألف شيء وألف شخص، ومع ذلك يكونون موحدين من ناحية التصور، ويثبتون وجود الله بأدلة جيدة. فهل يعتبر هؤلاء موحدين من وجهة نظر الإسلام؟

نقول بصورة مختصرة إسلامية: إنّ «الله» في التصور والفكر إنما هو مقدمة لـ «الله» في الحياة والوجود.

فمثل الموحد من الناحية النفسية، كمثل الشخص الذي يسلِّم أمره لشخص واحد، ومقام واحد، وتسيطر على وجوده قوة واحدة.. أما المشرك، فلا تتوفر وحدة وتجانس وتناسق في شخصيته، ويستحوذ على نفسيته عدة شركاء ومالكين، يشتركون في وجوده، وهؤلاء الشركاء لهم طبائع وأخلاق متنافسة فيما بينهم.

وفي الحديث المشهور الصحيح عن جعفر الصادق : أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ خَطَبَ النَّاسَ فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ فَقَالَ: "نَضَّرَ اللهُ عَبْداً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا، وَحَفِظَهَا وَبَلَّغَهَا مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرُ فَقِيهٍ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، ثَلاثٌ لا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ: إِخْلاصُ الْعَمَلِ للهِ، وَالنَّصِيحَةُ لأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَاللُّزُومُ لِجَمَاعَتِهِمْ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ مُحِيطَةٌ مِنْ وَرَائِهِمْ، الْمُسْلِمُونَ إِخْوَةٌ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ".

أيها الصائم.. عندما يغريك الشيطان بأن تحرك فكرك في التخطيط للشر، فإنك تحتاج - عندئذ - إلى إرادة إيمانية قوية تمنعك من ذلك.