آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 11:37 ص

في معضلات الثقافة العربية

يوسف مكي * صحيفة الخليج الإماراتية

الحديث عن أزمة الثقافة العربية، هو جزء من محاولتنا المستمرة، تفكيك بعض المفاهيم التي سادت في الواقع العربي، منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى يومنا هذا، وإعادة تركيبها، بما يتسق مع التحولات الكبرى، التي شهدها العالم، في المئة وخمسين عاماً المنصرمة. والحديث عن الثقافة العربية، في هذا السياق، لا يحمل معنى متضمناً بخصوصيتها عن الثقافات الأخرى، وبكونها عصية على التغيير. فالحركة قانون عام، لا يشمل بيئة بعينها، ويستثني أخرى، وإن كانت سرعة الإيقاع تختلف بين مجتمع وآخر، تبعاً لعوامل موضوعية وتاريخية، لا يمكن تجاوزها. الثقافة بشكل عام، هي نتاج مجموعة من العناصر التي تراكمت عبر حقب طويلة ممتدة، ذات العلاقة بالعادات والتقاليد، ومن ضمنها الفولكلور والفنون والمعتقدات. وجميع هذه العناصر، هي حاصل تفاعل حضاري وتداخل مع ثقافات إنسانية وافدة. الثقافة العربية، في واقعها الراهن، بشكل عام، هي نتاج واقع مأزوم، تعطلت فيه مراحل النمو، لأكثر من سبعمئة عام، غابت فيها الأمة في نوم طويل، منذ احتل المغول عاصمة العباسيين، وأغرقت مكتبة بغداد.

ولتتناوب على البلدان العربية، حملات غزو أخرى، انتهت بهيمنة سلطان الاستبداد العثماني، وطفوح المياه الراكدة، وغلبة الشعوذة والجهل على التجربة والعلم. وحين برزت حركة اليقظة العربية، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، لم تكن هذه الحركة، نتاج تطور تاريخي، بل صدى كاريكاتورياً واهناً لأفكار سادت بالقارة الأوروبية، وارتبطت بالتحولات الاجتماعية والسياسية والعلمية الكبرى فيها. لم يتمكن قادة حركة اليقظة العربية من توطين تلك الأفكار. واصطدمت هذه الحركة وهي لما تزل بعد يافعة، بجنازير الدبابات والمدافع الغربية، واتفاقية سايكس - بيكو ووعد بلفور. وفي صخب العجز عن التصدي والمواجهة للمحتل الجديد، تاه التمييز بين حداثة الغرب ومبادئه، والتطورات الفكرية، التي حملها، والتي باتت مطلباً كونياً، وبين عنف المحتل. فكانت النتيجة العودة بقوة، لفكر ما قبل الحداثة، وتأجيل مشروع النهضة، إلى مراحل لاحقة، لم تجد حتى هذه اللحظة آفاقاً مفتوحة لها، بسبب تغول الاستبداد وتجريف الحياة الثقافية، في المشهد العربي بأسره. ذلك لا يعني عدم وجود استثناءات لهذه القاعدة، ولكن تمظهرها لا يشي بأي أفق للخروج من الانسداد التاريخي، الذي مازال يلقي بكلكله على معظم مظاهر الحياة، في مجتمعاتنا العربية، التي فقدت مناعتها، وباتت مهيأة للتشظي والسقوط في أودية سحيقة.

لقد فقدت تمظهرات ثقافتنا القديمة، لكن أحداث الست سنوات التي انقضت، أكدت بما لا يقبل الجدل، رسوخ عناصرها، في العمق بمنظومة قيمنا الراهنة، وهي عناصر بعيدة عن التسليم بالعلم الحق والعمل الحق، والالتحاق بالعصر الكوني الذي نحياه. ثقافتنا في حيرة بين الأصالة والمعاصرة، وبين الشك واليقين. نشك حيث يجب أن نتيقن، ونتيقن حيث يترتب الشك. تهيمن على سلوكنا الخرافات والخزعبلات، ونرتعش خوفاً من السحرة والمشعوذين، الذين لا يملكون من أمرهم شيئا، والذين جعل العلم الحق منهم، شيئاً من الماضي، العاجز والمقيت. وتسودنا الشكوك في منجزات العلم، في كل مجالاته الحية، من كيمياء وفيزياء وجبر وعلم أحياء، وليس فقط في النظريات العلمية الفلسفية. مفكرونا يعيشون ثقافة الاستقراء، وليس ثقافة التجربة. علاقتهم بالعلم علاقة تلقين وليس تحليلاً وتفكيكاً وإعادة تركيب. ومفاهيمهم للأنا والآخر، متبلدة ومتكلسة. في الاستقراء، هناك إخضاع قسري للمنجز العلمي، ليكون جزءاً من تركيبة الثقافة الراكدة. وفي التجربة تفتح أبواب الكشف العلمي والإنساني، على مصاريعها، من غير حدود. في ثقافتنا تعميم للاستشراق والتغريب، وانفصام في الرؤية لما حولنا من الحضارات.

نقتبس ونستهلك كل شيء من لبوس الحضارة، ونرفض في الآن ذاته كل شيء. ونتعامل مع نتاج الاستشراق كله، ككم مهمل، ولكننا بأثر رجعي، نعود له عودة النفعي أو العاجز، حيث لا يتوفر في مكتباتنا بديل عنه. وحين نعود لذلك، فإن الرجعة تكون بحماس منقطع النظير، رجعة مصابة بالعمى فلا نعود نميز بين الغث والسمين. وفي كل هذا نتناسى أن تعبير الأنا والآخر، هو تعبير نسبي، قابل للأخذ والنقاش. فمن يضمن ألا يكون الآخر، بين ظهرانينا ومن أبناء جلدتنا، وأن الأنا قد يكون قابعاً بعيداً عنا آلاف الأميال، ولكنه يقف معنا ويتفهم قضايانا، ويناصرها حيثما أمكنه ذلك. ومن يتابع ما يجري من تعاطف متصاعد مع القضية الفلسطينية في القارة الأوروبية، والغرب عموماً، ومن يراقب ما يجري من صراع محتدم بين الفلسطينيين أنفسهم، على وهم السلطة... بين رام الله وقطاع غزة، والعجز عن التوصل إلى برنامج كفاحي يضمن الحقوق، ولو في الحدود الدنيا، وأيضاً تراجع الاهتمام العربي بالقضية المركزية، بتأكد له أن الأنا يمكن أن يتواجد في آخر زوايا الكرة الأرضية، وأن الآخر، يمكن أن يجثم بقوة في صدورنا، وفي أنسجتنا وخلايانا. تسبب النظرة الضيقة للثقافة، في مراكمة الخصوم، بدلاً من مضاعفة خانة الأصدقاء. وتضيع علينا فرص كبيرة، كان بالإمكان استثمارها لخدمة قضايانا العادلة. القضية ليست استبدال مفهوم بمفهوم، أو تعديل هنا وتشطيب هناك. فما تحتاجه ثقافتنا هو معالجات جذرية، تخرج بنا من نفق الأزمة الراهنة. وفي المقدمة من ذلك تجاوز غربيتنا التاريخية، وتحقيق المصالحة بين الجغرافيا والتاريخ. ولن يكون بإمكاننا أن نتحول إلى ترس فاعل في المسيرة الإنسانية، الصاعدة إلى أمام، إلا بخلق آليات وهياكل جديدة، وتحقيق الإصلاح بكل ما يحمله ذلك من معانٍ، وبناء الدولة العصرية، دولة المؤسسات، وجعل كل أطرها في خدمة الإنسان.