آخر تحديث: 23 / 4 / 2024م - 9:39 م

الإبتسامة في غيبوبة

فاطمة علي آل جعفر

في المقهى، بينما كنت أرتشف مُرَّ القهوة، سمعت أحداهن تصرخ بصوتٍ عال وصخب، رافضة تصرف النادل معها سألتها بلطف؛ ماذا فعل لك؟ أجابتني، ويا ليتها لم تجب، لأنه بدا لي الأمر سيئاً حينها، فأصبحت أنظر لنفسي لأتأكد ما إذا كنت أنا أيضا أفعل للآخرين ما فعله النادل لها، وأمنع نفسي مراراً وتكراراً كي لا اقع فيه فأتعرض لمثل هذا الهجوم، فكل ما فعله النادل هو أنه أبتسم حين قدم لها كوب القهوة. نعم اصبحنا هكذا نرفض السلام ونعِيب ما هو مباح، فإليكم أقدم اشدّ التعازي لدخول إبتسامتنا في غيبوبة.

كما شاركتني أحداهن شاكية ذات مرة، بقولها؛ أبتسمت لزوجي ذات مساء، فرمقني وهو يقول؛ لا أملك مالاً الآن. عندها حزنت لأجلهما، فالبيت الذي يخلو من الإبتسامة هو خلو من الحب، ومن خلا من الحب خلا من الأمان، وضرر ذلك على الجميع وهو أشد ضررا على الأبناء.

وكسبيل لتقدير الإبتسامة التي أصبحت عملتها نادرة، نجد عندما يتوفى الأجل أحد معارفنا وقد ودّع الحياة بابتسامة ارتسمت على محياه، سنتمنى حينها بلا شك أن نغادر الحياة بإبتسامة تجعل الجميع لا ينسى هذا الحدث الجميل والنادر. انها علامة على أن هذه الروح عاشت طاهرة ورحلت طاهرة.

ولعل كثرا من القرّاء قد مرت عليهم قصة ”ﺟﻮﺍﻥ“، ولكني استميحهم العذر في نقلها. كان ”ﺟﻮﺍﻥ“ ﻳﻌﻤﻞ ﻓﻲ ﻣﺼﻨﻊ ﺗﺠﻤﻴﺪ ﻭﺗﻮﺯﻳﻊ ﺃﺳﻤﺎﻙ، وﻓﻲ أحد ﺍﻳﺎﻡ ﺍﻟﻌﻤﻞ ﺩﺧﻞ ﻏﺮﻓﺔ ﺍﻟﺘﺒريد ﺑﻌﺪ ﻣﻮﻋﺪ ﺍﻧﺼﺮﺍﻑ ﺍﻟﻤﻮﻇﻔﻴﻦ، ﻭﻟﻜﻦ ﺣﺪﺛﺖ ﺍﻟﻤﻔﺎﺟﺄﺓ ﻋﻠﻰ ﺣﻴﻦ ﻏﻔﻠﺔ ﻣﻨﻪ، حيث انغلق عليه ﺍﻟﺒﺎﺏ ﻭﻫﻮ ﺑﺎﻟﺪﺍﺧل! ولا يوجد أحد يمكن ان يساعده. ﻭﺭﻏﻢ ﻣﻌﺮﻓﺘﻪ ﺑﺄﻥ ﻣﺤﺎﻭﻟﺘﻪ ﻃﻠﺐ ﺍﻟﻨﺠﺪﺓ ﺳﺘﻔﺸﻞ، ﺃلا‌ ﺃﻧﻪ ﻇﻞ ﻳﺼﺮﺥ ﺑﺄﻋﻠﻰ ﺻﻮﺗﻪ ﻭﻳﻀﺮﺏ ﺍﻟﺒﺎﺏ ﺑﻜﻞ ﻣﺎ ﺃﻭﺗﻲ ﻣﻦ ﻗﻮﺓ.

ﻭﺑﻌﺪ ﺍﻧﻘﻀﺎﺀ عدة ﺳﺎﻋﺎﺕ ﻭﺑﻴﻨﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﻋﻠﻰ ﻭﺷﻚ ﺍﻟﻤﻮﺕ داخل الثلاجة، ﺩﺧﻞ ﺃﺣﺪ ﺭﺟﺎﻝ ﺃﻣﻦ ﺍﻟﻤﺼﻨﻊ ﻭﻓﺘﺢ ﺍﻟﺒﺎﺏ ﻟﻪ ﺑﻠﻬﻔﺔ ﻭﺃﻧﻘﺬﻩ. ﺑﻌﺪ ﺃﻥ ﺇﻧﻘﺎﺫ ﺍﻟﺮﺟﻞ ﻭﺭﺟﻮﻋﻪ ﺍﻟﻰ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﺍﻟﺘﻲ ﻛﺎﺩ ﺃﻥ ﻳﻔﻘﺪﻫﺎ، ﺳﺄﻟﻮﺍ ﺭﺟﻞ ﺍلأ‌ﻣﻦ: ﻛﻴﻒ ﻋﺮﻓﺖ ﺃﻥ ﻫﻨﺎﻙ ﺭﺟﻞ ﺩﺍﺧﻞ ﺍﻟﺜلا‌ﺟﺔ؟!

ﻓﺮﺩ ﻋﻠﻴﻬﻢ: ﺃﻧﺎ ﻣﻮﻇﻒ ﻫﻨﺎ ﻣﻨﺬ ﺧﻤﺴﺔ ﻭﺛلا‌ﺛﻴﻦ ﻋﺎﻣﺎ، ﻭﺍﻟﻤﻮﻇﻔﻮﻥ ﺑﻴﻦ ﺩﺍﺧﻞ ﻭﺧﺎﺭﺝ ﺃﺛﻨﺎﺀ ﻳﻮﻡ ﺍﻟﻌﻤﻞ، ولا ﻳﻠﺘﻔﺖ ﺃﻱ ﻣﻨﻬﻢ ﻟﻮﺟﻮﺩﻱ ﻋﻠﻰ ﺑﻮﺍﺑﺔ ﺍﻟﻤﺼﻨﻊ، ﻋﺪﺍ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺮﺟﻞ ”ﺟﻮﺍﻥ“، ﻓﻬﻮ كان ﻳﺴﺘﻘﺒﻠﻨﻲ ﺑﺎﺑﺘﺴﺎﻣﺘﻪ ﺍﻟﺠﻤﻴﻠﺔ ﻭﺑﻜﻠﻤﺔ ﺻﺒﺎﺡ ﺍﻟﺨﻴﺮ ﻳﻮﻣﻴﺎ، ﻭﻳﻮﺩﻋﻨﻲ ﺑﺴلا‌ﻣﻪ ﻭﺗﻤﻨﺘﻴﺎﺗﻪ ﺃﻥ ﻳﺮﺍﻧﻲ ﻋﻠﻰ ﺧﻴﺮ ﻓﻲ ﺍﻟﻴﻮﻡ ﺍﻟﺘﺎﻟﻲ، ﻭﻫﻮ ﺑﺒﺴﺎﻃﺔ ﺍﻟﺮﺟﻞ ﺍﻟﺬﻱ ﺟﻌﻠﻨﻲ ﺃﺣﺲ ﺑﻘﻴﻤﺘﻲ بتعامله ﻣﻌﻲ ﺑﻜﻞ ﺍﺣﺘﺮﺍﻡ،، ﻭﺍﻟﻴﻮﻡ ﻭﺑﻌﺪ ﺳﺎﻋﺎﺕ ﺍﻟﻌﻤﻞ ﺍﻧﺘﻈﺮﺕ ﻣﺮﻭﺭﻩ ﻟﻴﻮﺩﻋﻨﻲ ﺃﺛﻨﺎﺀ ﺧﺮﻭﺟﻪ ﻭﻟﻜﻦ ﺍﻧﺘﻈﺎﺭﻱ ﻃﺎﻝ ﻟﺴﺎﻋﺎﺕ، ﻓﺄﺣﺴﺴﺖ ﺑﺄﻥ ﻫﻨﺎﻙ ﺃﻣﺮ ﻏﻴﺮ ﻃﺒﻴﻌﻲ، ﻭﺃﺧﺬﺕ ﺃﺑﺤﺚ ﻋﻨﻪ ﻓﻲ ﺟﻤﻴﻊ ﺃﺭﺟﺎﺀ ﺍﻟﻤﺼﻨﻊ، ﺍﻟﻰ ﺃﻥ ﻗﺎﺩﻧﻲ ﺗﻔﻜﻴﺮﻱ ﺑﻌﺪ ﺃﻥ ﻋﺠﺰﺕ ﻋﻦ ﺇﻳﺠﺎﺩﻩ ﺍﻟﻰ ﺍﻟﺜلا‌ﺟﺔ، ﻭﻓﺘﺤﺘﻬﺎ ﻓﻌلا‌ ﻭﻟﻘﻴﺘﻪ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﻭﺍﻟﻤﻮﺕ ﻓﺴﺎﺭﻋﺖ ﺍﻟﻰ ﻧﺠﺪﺗﻪ ﻭﺇﻧﻘﺎﺫﻩ.

وعلى ضوء ذلك، لنبدأ في أنعاش إبتسامتنا من جديد، فهي لا تزال جميلة مهما قضت سنينها في سبات طويل، فلها قيمتها الثابته، كما قال نبينا محمد ﷺ: «انكم لن تسعوا الناس بأموالكم فليسعهم منكم بسط الوجه وحسّن الخلق».

فلا تستهين بإبتسامتك. أن الإبتسامة دين وثقافة سبقتنا إليها الشعوب المتحضرة، كما اشار إلى ذلك الامام محمد عبده رحمه الله عندما قال: «ذهبت لبلاد الغرب رأيت الإسلام ولم ار المسلمين، وذهبت لبلاد العرب، فرأيت المسلمين ولم ار الإسلام».

أظهر طهر روحك من الآن، وأبتسم لزميل عملكَ، لمديرك، لخصمك، ولصاحبك، لزوجتك وابناءك، ابدأ الآن فكلما انتهزت الفرصة على نحو أسرع، كلما أصلحت ذاتك والمجتمع. سيما اذا علمنا ان الإنسان عندما يبتسم تتحرك من «5 - 13» عضلة في وجهه، وعندما يكون في حالة تجهم وعبوس تعمل «47» عضلة!!

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
معصومة
[ القطيف ]: 7 / 9 / 2017م - 5:54 ص
مقالة جميلة، تسلم ايدك اختي فاطمة، فعلا الابتسامة في غيبوبة عند البعض.