آخر تحديث: 20 / 4 / 2024م - 1:42 ص

التأمل وشاعرية المعنى

محمد الحرز * صحيفة اليوم

على المرء أن يتأمل حياته، عليه أن يقف قليلا ويستريح قبل أن يلتفت إلى الوراء، عليه أن يهدأ ويزيح عن أكتافه كل الأثقال التي راكمتها الأيام على جسده وكأنه يزيح الضباب عن مرايا روحه. أثقال لا تدع المرء حرا طليقا في سماء ذاته، ولا تجعله طائرا مغردا على أغصان أيامه، بل تمعن أكثر في تقييده وتطويقه، وتجعله يرى أحزانه وأحلامه وخيباته وحتى أفراحه ومسراته ليست سوى حمولة زائدة لا تسعها روحه ولا دمه ولا أنفاسه. لذلك ما الذي يتوجب على الإنسان كي يخرج من شرنقته الخانقة تلك؟ ما الذي يتوجب عليه كيلا يقع في المصيدة ثم لا يستطيع الخروج منها على الإطلاق؟ ربما يتساءل القارئ هنا ما الذي أعنيه بالتأمل؟ ولماذا استخدم اللغة المجازية في التعبير عن هذه المسألة؟ قد يكون التأمل نوعا ما من استرجاع للذاكرة وفحص دهاليزها المظلمة، واكتشاف طرقها المتعرجة الكثيرة. فالذاكرة هنا ليست سوى حياتنا الماضية، ليست سوى الحبل الذي ننشر فوقه أيامنا أمام الشمس، والذي يجف منها ولا تأخذه الريح إلى حيث تذهب، يكون إحدى العلامات الكبرى للدلالة على أنفسنا وذواتنا. وكلما اقتربنا من الحبل وهززناه بأيدينا كنا أقرب إلى ذواتنا وكان الإحساس بصوت اهتزازه في الهواء دليلا على أنك عبرت بحورًا وأنهارًا وصعدت جبالًا وقطعت وديانًا كثيرة كي تصل إلى ما أنت عليه بهذا الإحساس.

قد يكون التأمل أيضا نوعا من الرغبة في التجاوز، تجاوز المرء ما لا يرضاه من نفسه على وضعه الحالي، تحسين ظروف المعيشة، السعي للوصول إلى مكانة اجتماعية مرموقة، تحقيق هدف اقتصادي أو سياسي أو فكري أو أدبي. جميعها مبررات قوية تدفع الإنسان في الحياة كي يعيد حساباته على وقع ما يراه إنها أخطاء أو أوهام ينبغي أن تكون بهذه الطريقة وليست بتلك. لهذا يمكن اعتبار الرغبة في التجاوز نوعا من تصحيح المسار. لذلك أغلب الثورات السياسية والاجتماعية تستخدم مصطلحات وألفاظا من هذا القبيل: تصحيح، مراجعة، تعديل مسار، النهضة من جديد، وهكذا دواليك.

لكن كلمة التأمل - عزيزي القارئ - في النهاية لا تقف عند دلالة محددة أو معنى وحيد، وذلك بسبب ضبابية الكلمة، ولأنها من الوهلة الأولى ذات طبيعة شعرية توظف دائما في قاموس الحالمين من البشر. لذا يصعب توظيفها خارج السياق المجازي. لكن نحن بحاجة في حياتنا اليومية إلى كلمات نستخدمها في غير الموضع الذي وضعت فيه للتعبير من خلالها عن همومنا وقضايانا. لكن الرهان هو: هل نستطيع كما فعلنا مع كلمة التأمل هنا؟