آخر تحديث: 20 / 4 / 2024م - 2:34 ص

‎الخطاب العاشورائي.. الانبثاق والتجدّد

ليالي الفرج *

‎يميل أكثر الدارسين لقضية كبرى في حجم ومدى عاشوراء الإمام الحسين إلى توصيف الحركة الحسينية بالنهضة الحسينية أكثر من الثورة؛ ولعل أحد الأسباب التي تجعلهم يرجحون هذا الاختيار مع أنهما في بعض الحالات قد ينظر لهما ضمن الخطاب العام بأنهما يتبادلان الموقع في مستوى ترادفيّ، غير أن الفرق الأولي يظهر بين مفهوم النهضة ومفهوم الثورة؛ باعتبار أن النهضة حركة لها سمات الانطلاق ثم دينامية البقاء والامتداد بالحجم الذي تحمله من قيم قادرة على صناعة التغيير ولديها إمكانية السطوع المستمر عبر مبانيها الوجدانية بكل حمولاتها العاطفية وتجلياتها الذاتية، كما هو الحال بامتلاكها المحتوى المعرفيّ الذي تربطه قيم تأخذ في الدين موقع الصدارة، فقيم العدالة والحرية هي قيم وجودية داخل الرؤية الإسلامية، وهي ظاهرة في الخطاب الحسيني العاشورائي إلى حدّ لا يقبل التأويل.

‎الخطاب الحسيني وضع الإصلاح هدفاً تكون ثماره قيم السماء التي أرادها الله سبحانه وتعالى؛ إذ في مدينة الرسول ﷺ قال الإمام : «إني لم أخرج أَشِراً ولا بَطراً ولا مُفسداً ولا ظالماً، وإنّما خَرَجْتُ لطَلب الإصلاح في أمّة جدّي رسول الله ﷺ، أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المُنكَر وأسير بسيرة جدّي وأبي عليّ بن أبي طالب »، والفلاح هو مآل المصلحين الربانيين ومآل السائرين على هداهم، فالقرآن الكريم يدعو ويأمر إلى هذا الطريق في قول الله تعالى: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، «آل عمران: 104»، وهذا ما يؤكده الرسول الأكرم ﷺ: «لتأمرنَّ بالمعروف ولتنهُنَّ عن المنكر أو ليسلطنّ الله شرارَكم‏ على خياركم، ثمّ يدعو خيارُكم فلا يُستجاب لهم».

‎ولعل اللسانيات الحديثة لديها قدرة واسعة على تعريف مفهوم الخطاب وتمييز أشكاله وتقسيم مستوياته وتصنيف علاقاته؛ وهذا يشير إلى ضرورة التوجه نحو دراسات من هذا النوع في تاريخ النهضة الحسينية الخالدة.

‎أما ما يهمنا هنا، فهو الحديث عن سمات الخطاب الحسيني الإصلاحي؛ فلا يمكن أن نغفل أولا عن صفة الجامعية لرسالة هذا الخطاب الإصلاحي؛ لأنه بلا ريب يمضي في حركة تزامنية مع الإسلام، كخطاب جامع للأمة الإسلامية ليس داخل الطيف الواحد فحسب، بل في كل أطيافها وبجميع عناوينها، حتى مع محاولات تحجيم مدَيَات هذا الخطاب النهضوي الأكبر في تاريخ البشرية.

‎السمة الأخرى، محتوى الخطاب المعرفي، هو طاقة أقوى من طاقات المفاعيل النووية، وهو قوة قادرة على سبر الظروف المكانية والزمانية، وبصيرة يطمئن معها كل حامل لهذا المحتوى الحسيني الذي هو محتوى نبوي إسلامي دون أي جدل. لهذا المحتوى المعرفي بعدان رئيسان هما: الوظيفة والغاية، فوظيفة الخطاب الحسيني معرفياً ليست إلا صناعة الوعي السليم الذي يتبنى السير على الجادّة، ولا يكتفي بالسطح المعرفي، وإنما لديه الاستعداد والرغبة والدافعية لاستقصاء الأعماق المعرفية الحسينية كفعل وكثقافة وكمحورية في الحياة. أما الغاية فتتوخى التطبيق العملي لمحتوى هذا الخطاب المعرفي وتكريس مبانيه لدى الذات الساعية لذلك وللمجتمع المتفاعل مع هذه الغاية، الذي يمكنه أن يعرّف بالقضية الحسينية لدى كل إنسان في العالم، عبر توطيف مجموعة الأدوات المعاصرة التي تعزز الأدوات الكلاسيكية ذات المعنى الجامع.

‎السمة الثالثة، الحضور الوجداني المتدفق والرحيب في فضاءات تراجيديا كربلاء.. كربلاء التي التي يلهب ذكرها الوجود في فجائعياتها ومآسيها. ولكن في توخي الحرص على إظهار قضية كربلاء دون أي تعويق للشكل أو المضمون يثمر في تحقيق الهداية الجامعة التي يخاطب بها النبي ﷺ في قول الله تعالى: ﴿إنما أنت مُنذر، ولكلّ قومٍ هادْ، فالحسين هو منار الهداية، وهذا يتجلى في قول جده المصطفى صلوات الله عليه وآله: «إنّ الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة».

‎ونحن في مرحلة ومنعطف أحوج ما نكون فيه لأن نَتَمَثّل الحسين أسوة وقدوة ومناراً، لأنه الصراط القويم والنور المبين الذي تستمده المسيرة الحسينية من حقائق الهداية النبوية، وهي المعين الأصفى والمرجع الأوفى.

‎السَّلامُ عَلَيْكَ يا اَبا عَبْدِاللهِ، وَعَلَى الاَرْواحِ الَّتي حَلَّتْ بِفِنائِكَ، عَلَيْكَ مِنّي سَلامُ اللهِ، اَبَداً ما بَقيتُ وَبَقِيَ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ، وَلا جَعَلَهُ اللهُ آخِرَ الْعَهْدِ مِنّي لِزِيارَتِكُمْ، اَلسَّلامُ عَلَى الْحُسَيْنِ وَعَلى عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَعَلى اَوْلادِ الْحُسَيْنِ وَعَلى اَصْحابِ الْحُسَيْنِ.

كاتبة رأي في صحيفة الشرق السعودية
شاعرة ومهتمة بترجمة بعض النصوص الأدبية العالمية إلى العربية ، ولها عدَّة بحوث في المجال التربوي.