آخر تحديث: 16 / 4 / 2024م - 4:10 م

الخفرة الرسالية

يصف الرواة السيدة زينب بعد إلقائها لخطبها في الكوفة أو الشام: «ما رأيت خفرة بأنطق منها».

وصفان يشيدان بعظمتها وعلو شأنها مما يلفت النظر إلى هذه الشخصية الرسالية، والتي أدت دورا تبليغيا يكشف الوقائع التي حاول الطغاة إخفاءها خوفا من نقمة الناس وتحشيد عواطفهم وترشيد عقولهم، وأثبتت الحوراء زينب أنها جديرة بالثقة والمسئولية التي ألقاها على عاتقها الإمام الحسين ، فالسبط الشهيد في تخطيطه لنفاذ القيم والأهداف الإصلاحية التي نهض من أجلها، يعلم ما يمكن أن يواجه به الطغاة وصول القيم الحسينية وتشرب النفوس لها، فهم يتقنون الدور التخريبي والتشويهي للحقائق والمضامين، وهذا يعني أنه إن لم يوجد مصد وصوت إعلامي يفضح دور القتلة والمستبدين وما ارتكبوه من فضائع وجرائم بحق بيت الرسالة ستضيع جهوده، فكانت السيدة زينب الدعامة المهمة مع الإمام السجاد في بيان وإظهار الصورة الحقيقية بلا أي لبس، ولا أدل على التأثير الكبير لخطب السيدة زينب من خلق الشرارة الأولى لفهم الواقع المرير المؤلم، وتهييج العواطف وتحريك دفائن العقول تجاه الجرم والفساد وإشاعة المنكرات، مما أوجد أزمة ومأزقا كبيرا للسلطة أمام هذا الصوت التعريفي بالنهضة الحسينية وأهدافها، وما صاحبها من أحداث دموية عرت تلك النفوس الحاقدة والمتعطشة لسفك الدماء الزاكية لأولياء الله تعالى، والأدهى من ذلك هو التنويه بالحقد الدفين وروح التشفي والانتقام، والتعري تماما من الدين واتخاذه قناعا يتوارون خلفه لتحقيق مآربهم، كل ذلك التخطيط الإجرامي تجاه شمس الحرية والحق والإصلاح لم يفلح في حجبها، واستطاعت الحوراء زينب إماطة اللثام عن مجريات الأمور والأحداث.

استطاعت الحوراء زينب أن تقدم لنا نموذج القدوة الذي نتأسى به، في العمل الرسالي في أحلك الظروف وأصعبها مع غياب المعين والأيادي المساندة، اتكالا على القوة الربانية المعينة واعتمادا على الهمة العالية التي يتحلى بها المؤمن في ساحة العمل بكل طموح ومثابرة، فلم يكن الوقوع في السبي وما صاحبه من قسوة وألم بالذي يمنع العقيلة من أداء دورها التكليفي، إنه منطق الواثق من نصر الله تعالى وإن كان في الظاهر أنه مكسور ومهزوم ويعاني من ويلات المصائب المهولة، ولكن معالم النصر بارزة في منطقها ورباطة جأشها وإقدامها على تبليغ الرسالة مع ما تواجهه من إرهاب سلطة لا تتورع عن أي جرم أو فعل شنيع يمكن أن تقدم عليه، فهي تواجه ذئابا بشرية تتعطش لانتهاك كل الأعراف والقيم.

والصفة الأولى التي تبرز كعلامة فارقة في شخصية العقيلة هي الخفرة، ومعنى الخفرة أي شديدة الحياء والملتزمة بكامل معالم الحجاب والصون في لياسها ومنطقها وتحركها، فهي وإن اضطرت لمخاطبة الرجال والحديث معهم تبيانا لواقعة الطف الأليمة وشهادة السبط الحسين ، كدور رسالي أناطه الإمام الحسين بها وكلفها العمل على تعريف الناس بالحقائق؛ لئلا يصيبها شيء من حبر التحريف والتشويش، لكن هذا لا يعني أبدا تخليها عن كامل الالتزام بالقيم الدينية ومنها الحجاب وآداب الحديث والبعد عن الإسفاف، فأضحت الحوراء قدوة للرجال قبل النساء في تحمل مسئولية تبليغ رسالات الله عن كامل معرفة وصلابة إيمان، لتشكل معلما بارزا في ميدان العمل الإعلامي الذي يخلو من الوهن والتعاجز والخمول، فمن تخاذل عن نصرة الحق والفضيلة مبررا فعله بقلة الناصر أو صعوبة الظروف، فإن خصيمه والحجة المقامة عليه هو أداء الحوراء الرسالي.