آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 1:31 ص

النجاح.. أين ومتى؟

طاهرة آل سيف

حين يأتي أحدهم ويطرق باب حياتي بذلك السؤال التراجيدي: ماهي وظيفتك؟ أوماذا تعملين؟ أو هل تفكرين بالعمل ذات يوم؟ كنت أشعر وكأنه يحشرني في زاوية ضيقة في غرفة مليئة بالأبواب ولكنني لا أستطيع الهروب لأي منها، وأنا هناك وعيوني معلقة على باب أمومتي الذي يناديني، وباب هواياتي التي لا أستغني عنها، وباب واجباتي اليومية التي تحقق لي ذاتي، لماذا يغلقون أعينهم عنها ويحاصرونني هنا! ولكني أبقى حبيسة زاويتي لأيام حتى إذا عدتُ لممارسة حياتي المعتادة وجدتُ في نفسي فتور وملل وبهتت أمامي صور السعادة التي كنتُ آنسُ بها في الأمس!

ثم أذهب نحو مرآتي في جدل خيالي وأتعهد لها أنني سوف أرد في المرة القادمة بقناعة أكثر: فسأقول لا أحب أن ألتحق بالوظيفة حالياً، ثم أقول لا لا ذلك غير مقنع، الأفضل أن أقول: لا أجد ذاتي في الوظيفة، ثم سرعان ما أشعر بالضجر لأنني لم أستطع إسماع الآخرين صوتي، فأُفضل أن أذهب لصديقتي لنبدأ بفضفضة نسائية قد تكفل بتفريغ بعضاً من شحناتي الأنثوية ولو مؤقتاً!

أرى أن الناس في هذه الحالة قد وضعوا النجاح على كفة ميزان بخس فخف ثقله ومقداره، لطالما سألت نفسي بعد كل مرة هل أنا فاشلة إن لم ألتحق بوظيفة رسمية وبدخل مضمون في نهاية كل شهر؟ هل النجاح كان حكراً على من يمتلكون هذه الوظيفة؟ هل النجاح بإرادة الإنسان أم هو ملقى على طريق القدر وسيصادفه من وُجد في قدره حتماً، حتى وإن لم يسعى له؟

تحت مظلة سؤال الناس هذا تساقطت على رأسي الكثير من قطرات الأسئلة فصرتُ أبحث عن حقيقة النجاح علني أُسكتُ صوتاً داخلي لطالما استفزته الأعين والأفواه!

وأنا هنا بلا وظيفة ولم أسعى لها يوماً، ولا أكيل النجاح بمكيال الوظائف فحسب! ولا أنكر على الناجحين نجاحهم في وظائفهم أبداً، بل وأقدر هذه الحاجة الضرورية والتي تتوقف من دونها عجلة الحياة، ولكني هنا أتحدث عن أبعاد أخرى تسلط الضوء على زوايا أخرى للنجاح، وأكيل النجاح بمكيال الأهداف المرجوة ومدى تحقيقها سواء على مستوى الوظيفة أو الطموح أو المكانة الإجتماعية أو أياً ماكانت ماتجود به يداك، وإني أرى أمهات قديرات أتممن تعليمهن وأحرزن شهادات واخترن برغبتهن أن يدرن عجلة الحياة من ذلك البيت الصغير، ويحققن نجاحات باهرة في تربية وتعليم أطفالهن، لايقل جهدهن عن جهد الأم العاملة، ولكننا مازلنا نهمش أدوارهن ونسعى لنبش هذا الثقب في حياتهن، فتراها كمن يداري نقصاً حين تقول للآخرين: حتماً سأبحث ُ عن وظيفة يوماً ما، وقد تشعر حين تكتب في خانة الحالة الإجتماعية ربة منزل أنها نسفت سنين الدراسة تحت أحرف هذه الكلمات، وإن لم تكن على قناعة تامة ولكنها وجدت في انتقاص الناس ثغرة لابد من دفنها، لم تجد التصفيق والتطبيل على دورها في المجتمع وصارت تبحث عن الوظيفة ليس لأنها تجد نفسها في ذلك أو ترغب في دخل ٍ مادي، فقط لأنه من المفروض أن تحصل عليها كما كثيراً من الأشياء التي من المفترض أن نملكها لأن الناس يملكونها، ولا أحد أفضل من أحد إن صح التعبير عامةً.

من قال أن النجاح يحده حدود مكان أو زمان أو ظرف، جديرٌ به أن يكون على رأس تفاصيل حياتنا الصغيرة ولانحصره في أطر وزوايا معينة، فعندما تقرر أماً أن تدخل المطبخ وتعد طبقاً فهذا ضروري، ولكن أن تطهوه بحب واتقان ويأكله أفراد البيت فيستشعرون لذته والحب معاً فهذا نجاحاً، أن تكون لأم رغبات وطموح وربما مواهب تقاسمتها مع أمومتها بنجاح، هذا نجاح، وأن تختار أن تؤجل ذلك كله حباً ورغبةً فتنتج أفراد ناجحين فذلك نجاح أيضاً، أن تتخرج بشهادة جامعية وتختار أن تعمل في ميادين الحياة بتخصصك الأكاديمي وتنجح في ذلك فهذا نجاحاً، وأن تختار أن تدير مشروعك الخاص وتنجح في ذلك فهذا نجاحاً أيضاً، حين يقرر أحد أن يكون أب فهذا حاجة فطرية ولكن أن يتهيأ للأبوة بكل إمكاناتها ويضحي بجُل اهتمامته من أجل طفله فهذا نجاح، أن يكون أحدهم طبيباً فهذا إنجاز ولكن أن يكون حاذقاً متمكناً فهذا نجاح، حين تطور نقاط ضعفك وتبحث في الحلول التي ترتقي بفكرك ومشكلاتك الخاصة فهذا نجاحاً، أيا ماعملت وأتقنته كان ذلك نجاحاً وإن اختلف مقامه ومكانه، المهم أن تنجح فيما أنت عليه وتطمح للأفضل دون أن تنكر على الآخرين نجاحاتهم في خياراتهم الحياتية، فليس مهماً أن تبلغ مراتب عالية منحتك إياها الصدفة أو القدر فترى في نفسك نجاحاً لمجرد بلوغك ذاك المكان، دون أن تحقق نجاحاً يشهد على ذلك!.

حيثما كانت لديك طاقة أودعها الله بك فقم ولبي نداءاتها الطبيعية، كنا في ذلك اليوم الذي أراد الله أن يخلقنا فيه محل نقاش عظيم بين الله وملائكته وكانت رسالته جلية حين قال: «وإذقال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة»، حتى سجد من سجد وكفر من كفر، فلابد أن نكون أهلاً للخلافة ولو على أقل تقدير.

هنالك إطار مقيت للنجاح زينه الناس فصار كل من أراد أن يحقق ذاته في أعين الناس لابد أن يضع صورته داخل هذا الإطار، بيد أن جمال الصور المُؤطرة قد لاتعكس الحقيقة دائماً!، كان أحد الأثرياء يوماً ما ينظر من نافذة إحدى شركاته الضخمة ويراقب بعينٍ ملؤها الغبطة للعاملين في الأسفل ويرى في الخوذات على رؤسهم تيجان للصحة تمنى لو اشتراها بكل ماجمع وعدد طيلة أيام عمره المنقضي، قال لصديقه لو استطاع أحدهم أن يبيعني صحته لاشتريتها بملء ما أراد ذهباً فإني أفنيتُ صحتي في مالٍ حرسته حتى إذا بلغتُ مابلغتُ من ثراء لم يحرسني!

وما أعمق ماقاله عيسى المسيح : «يرى الناس النجاح في أول حجر للبناء، وأنا أرى النجاح في آخر حجر في البناء».

فمانرى ظاهرهُ النجاح قد يكون باطنهُ في نهاية الأمر هلاك صحته أو عائلته أو دينه فليس ذلك بنجاح أبداً.

قالت لي صديقتي يوماً أنها تبحث في حياتها عن ذلك الشغف الذي يجعلها تنام ثم تستيقظ لتلاحقه ثم تعيش من أجله وتستشعر فيه دورها الحقيقي في الحياة، قالت لي أنها تملك العديد من المواهب ولكنها لاتستطيع إطلاقها حيث تزاحمنا الحياة في آمالنا وطريق النجاح صعبٌ وطويل، وختمت قولها تُرى ماهو سرُّ الناجحين الحقيقي؟ لو عرفته لاقتفيتُ أثره وأنا عاصبة العينين، فذكرتني بهذا كلمات لأحد الناجحين في الحياة قال: أن الناجح لا يختلف عن غيره فالله قسم الموارد في الأرض بالتساوي على الجميع وأوجد لهم الظروف نفسها على مدى الأزمان فالأرض نفسها والهواء نفسه والماء نفسه، والله خلق العقل للبشر نفسه ولم يخلق إنسان غبي، وآخر ذكي، ولكن لله طريقته في إيداع القدرة والذكاء عند كل إنسان، ولايختلف الناجح عن الفاشل إلا في شيء وحيد وهو: أن رصيد الناجح في محاولات فاشلة أعلى من رصيد الفاشل في محاولات فاشلة، فالناجح لايرضى بالفشل ويستسلم بل يحاول ويحاول حتى يحقق مايريد، فهذا أديسون مثلاً في رصيده آلاف المحاولات الفاشلة للدارة الكهربائية ولم ييأس حتى حقق نجاحاً تدين له البشرية به، وهذا بيل جيتس أثرى الأثرياء في زماننا يوماً ما كان طريداً من المدرسة بقولهم غبي!

ثم هل إن النجاح مطلب رباني؟ أرى أن النجاح يكاد يبلغ في علوه مرتبة الواجب نفسه، فالله يحب العبد إذا عمل عملاً أن يتقنه، ثم أننا في حياة الرسل نجد لقصص الفشل باباً واسعاً، ولم يكل يوماً أحد منهم عن الدعوة والإصرار على النجاح فيها، فذا نوح لبث فيهم تسعمائة إلا خمسين عاماً ولم يفتؤ يدعوهم ويجزم في بناء سفينة وسعها بوسع النجاح الذي آمن به، وحين ذهب ذو النون مغاضباً وابتلعه الحوت لولا أنه سبح واستغفر واستدرك سبيل النجاح للبث في بطنه إلى يوم البعث، ماكان بطن الحوت إلا ظلمة الفشل التي تبتلع الإنسان حين ييأس في تحقيق غايته، حتى يستدرك نفسه وتنبت عليه يقطينة النجاح، وفي ذلك أرفع الأدب الإلهي في تربيتنا على رفض الفشل والسعي لطرق النجاح.

ويثير حفيظتي بل ويضحكني مواساة أحدهم لنفسه وللأمة جمعاء، عندما يرى أن الغرب قد نجحوا في النهوض بمجتمعاتهم سواء على المستوى الصناعي أو العلمي ونحن متأخرون فيقول نجاحهم دنيوي غير مجدي ولن يدخلهم نجاحهم الجنة! فهم كفار سيدخلون النار، ياعزيزي إن الله يأخذ بيد الساعي في هذه الدنيا كافراً كان أم مؤمناً، ولو أن مؤمناً دعا الله طوال حياته أن ينبت شجرةً في بيته مانبتت ولاقامت لها قائمة وهو جالس مكانه ولم يسعى لتهيئة أسباب زراعتها!

وحق لك أن تقول في ذلك المقام أن النجاح الحقيقي أن تنجح في الدنيا والآخرة، وما أجمل أن نطمح من الله بتلك الحسنة التي أشاد بها في كتابه: ﴿اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
هلال الوحيد
[ القطيف ]: 24 / 10 / 2017م - 9:23 ص
احسنت. نجاح الإنسان أن يكون إنسان وليس فقط الوظيفة الروتينية. للحياة جوانب لا تعد ومن يساهم فيها بإيجابية فله كل التقدير أينما كان أو كانت.