آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 11:39 م

الغفلة عن المصير‎

ورد عن الإمام المجتبى : الناس في دار سهو وغفلة، يعملون ولا يعلمون» «البحار ج 1 ص 218».

الحقيقة المغفول عنها مع وضوحها وضوح الشمس في رابعة النهار، هو أن وجود الإنسان في الحياة الدنيوية مؤقت بأجل معين، متى ما استوفى عمره المكتوب له وحانت منيته فسيرحل عنها بلا عودة، فمتاعها زائل وقليل بقاؤه وأمده، ومع ذلك يحرص - أشد الحرص - على اقتنائه واكتنازه والشح به على الغير وحتى على نفسه، ولو نظر من حوله ومن سبقه من الأمم ممن تمكنوا في الأرض وعمروها واستمتعوا بخيراتها ونعمها حتى وافتهم آجالهم، فما بقي من أثرهم سوى سيرة تحكي أعمالهم الصالحة أو المنكرة، فقد تلذذوا بنعم وشهوات حينا من الزمن وهاهم احتوتهم القبور وضمتهم الأرض تحت أديمها، وحينما فارقوا الدنيا هل حملوا معهم في حفرهم شيئا من العقارات والأموال التي بذلوا من أجلها، بل أودعوا فيها وقد خلفوا كل ممتلكاتهم ومقتنياتهم!!

الحياة لم تكن سوى مضمار يتنافس فيه العقلاء على امتشاق علياء وقمة العمل الصالح، والتي غاب عنها من لووا صفحة أعناقهم عن بناء مستقبلهم الأخروي وارتضوا خسيس العيش في دنيا زائلة، فشتان ما بين من قدم إلى عالم الآخرة وقد أوقر ظهره بثقل الذنوب والآثام، وبين من استكثر من عمل الخير والحسنات، أفلا ينظر المرء إلى موقعية نفسه وماهية أفعاله التي تصنفه مع الأخيار أو أهل المعاصي، فإن مصيره الأخروي يتحدد بناء على قناعاته وعمله القائم عليها، فكل يوم يمر عليه يشكل فرصة سانحة للعمل المثابر وتصحيح أخطائه، أو يكون مغرما عليه فيضيعه وتزداد علاقته بالدنيا الزائلة قوة ومتانة، فعين الضعف العقلي هو الزهد في عالم البقاء الخالد، والانكباب وصرف الهمة في تحصيل الملذات المهلكة.

عالم الآخرة ينقطع فيه المرء عن العمل، ويقف بين يدي العدالة الإلهية ليحاكم على ما عمل في الدنيا، وهذا الحساب يجري وفق معايير دقيقة لا تغيب فيها ذرات العمل وصغاره فضلا عن كبارها، أفلا يستحق منه هذا العلم اليقيني بالمحاسبة الدقيقة أن يستعد لذلك اليوم بمراقبة ومتابعة أقواله قبل أن ينطق بها وتصرفاته قبل أن يقدم عليها، فعملية التصحيح والتراجع عن الخطأ تعد عملية سهلة متى ما امتلك إرادة وعزم، وأما بعد الموت فقد انقطع العمل ولا يجدي تمني الرجوع إلى الدنيا لعمل الصالحات، وعض أنامل الندم والحسرة لا يغير من واقعه شيئا، فهلا استبق أجله وتنبه لأوجه تقصيره!!

وهناك عائق كبير أمام اليقظة الروحية وتنبه المرء لأخطائه وجسيم أفعاله، ألا وهو مرض الغفلة وغيبوبة العقل عن التفكير أو دخوله في موت سريري يفقده أي إحساس بالألم والتحسر على ما آلت إليه أحواله من سوء، فالإنسان الواعي هو من اتقى الخطر المحدق بتجنب أسبابه والدوافع نحو الاتجاه له، وأي خطر أعظم من نار جهنم التي جعلها الباري عقابا للعصاة من عباده، أفلا يطلب النجاة لنفسه فيعتقها من نار الجحيم، ويتزود من العمل الصالح ما يشفع له ويؤهله للاستظلتل بالرحمةو المغفرة الإلهية الواسعة.

وكم هو مؤلم صورة ذلك الإنسان الساهي والذي لم يلتفت إلى تقصيره وإسرافه على نفسه إلا بعد أن رحل من هذه الدنيا وواجه عالم القبور، فعندما يوسد التراب لا تنفعه الأماني والرغبات المستحيلة بالرجوع مرة إلى الدنيا؛ أملا في تغيير موازين العمل بالاستكثار من عمل الخير والتفرغ للعبادة، هيهات فقد انقطع مضمار العمل بانتهاء أجله وانقضى الأمر.

وهذه الغفلة يمتد أثرها إلى عقل المرء ووجدانه، فلا يستشعر معها تقدمه في العمر وطيه لسجل الأيام، فمع ما يراه من رحيل الناس من حوله وكأنهم أوراق شجر في فصل الخريف، ولكن أنى له والاعتبار والتنبه لعواقب الأمور ونهاياتها، كما أن فؤاده لا يرعي بالا ولا اهتماما بالوعظ والنصح الذي يقدم له، بل يعرض عنه صفحا وكأن في أذنيه وقرا وصمما.

وليس معنى الاستعداد لليوم الآخر هو الإعراض الكلي عن التمتع المباح في الدنيا، بل الإنسان مركب من روح وبدن وكلاهما له حاجاته التي ينبغي تلبيتها في نطاق وإطار الشرع المقدس دون إفراط أو تجاوز للحرام والمشتبهات، والمحذور هو التعلق بالدنيا وعشق متاعها المفضي إلى انشغاله عن ذكر الله تعالى، وطمعه الدائم في المزيد من حطامها الزائل.