آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 3:46 م

المن القطيفي الأشهر خليجيا

عبد الرسول الغريافي

المن بفتح الميم وتشديد النون مع تسكينها، وجمعه أمنان، وهو وحدة قياس وزن كبيره تداولها التجار عالميا منذ أقدم العصور؛ وقد ورد ذكر المن بألفاظ مختلفة في كثير من الحضارات القديمه، كذكره في تشريعات الملك حمورابي «1750 - 1793 قبل الميلاد» وهو من أعاظم ملوك البابليين في العراق القديم الذي انصرف في بداية حكمه إلى الإصلاحات الداخليه وترفيه شعبه والقضاء على الفساد والرشوات وغيرها فأصدر قوانين سجلها بالخط المسماري وباللغة البابليه على مسلة اسطوانية الشكل كبيرة الحجم من حجر الديورانت الأسود بطول بلغ 225 سم وقطر 60 سم إذ احتوت على 282 مادة تشريعية. وقد وجدت في مدينة سوسه عاصمة عيلام أثناء البعثه التنقيبية الفرنسية «1902 - 1901» وهي موجودة اليوم في متحف اللوفر بباريس، فعلى هذه المسلة وردت لفظة المن وبألفاظ مختلفة في عدة مواد فالماده رقم «24» من تشريعاته - مثلا - تقول: ”فإن كانت نفس قد فقدت أثناء السرقة فعلى المدينة والحاكم أن يدفع *منا* من الفضة لأهله“. وفي ترجمة أخرى ”يدفع *مانة*“. كما وقد ذكر المن ايضا في المادة رقم «59» والتي تقول: ”إذا سيد قطع شجرة من بستان سيد آخر بلا موافقة صاحب البستان فعليه أن يدفع نصف *مانا*من الفضة“.

المن القطيفي الأشهر خليجيالقد ورد ذكر المن في كثير من حضارات العالم؛ ففي الهيروغليفية المصرية جاءت في صورتين: من «Men» ومانا «Mana» وفي العبرية مانه «Maneh» وبالروماني «Mina»، وقد ادخلت في قواميس العرب بهذه الصورة: ”المن: جمعها أمنان وهو كيل أو ميزان ويساوي شرعا 180 مثقال وعرفا 280 مثقال“. وقد انتقل من البلاد العربية إلى الهند ومنها إلى شرق آسيا، كما انتقل إلى الغرب؛ ففي أسبانيا يسمى المنا «almena»، وفي اللغة الفرنسية وجد بمسمى «Almene» ويساوي عشرين رطلا، وانتقل من الهند إلى البرتغال بإسم «moe»، وأما في انجلترا فهو يعرف بالماند ”Maound“ وقد استخدم قبل أربعة قرون.

والمن رسميا هو 8 صاع «أي مايعادل 20 كيلو أو أقل»، ولكن تتغير مقادير المن من مكان إلى آخر وذلك حسب أنواع منتجات البضائع لتلك المنطقة وأصنافها وطبيعتها وكميات الإنتاج وهل طبيعة المنتج ثقيل أم خفيف وهل حجمه صغير أم كبير وكذلك حسب وفرة الكميات وظروف البيع والشراء وكذلك خضوعها لعادات وتقاليد المجتمع. ففي بومبي، مثلا، المن يساوي 28 رطلا وفي مدراس 25 رطلا وأعلى وزن له في الهند هو 163,25 رطلا وأقله 18 رطلا، وفي فارس أقل من 7 أرطال أما المن الملكي الشاهي فهو 14 رطلا.

ولاتزال وحدة وزن المن حتى أيامنا هذه متداولة في الخليج العربي؛ ففي كل من الإمارات وعمان المن يساوي 9 أرطال أي 4 كيلو،

أما في البحرين فهو 24 كيلو وفي الأحساء 240 كيلو

وفي القطيف 16 كيلو، وقد كانت وحدة قياس الوزن الأصغر من المن القطيفي في الخمسينات وماقبلها من القرن العشرين الماضي هي الحقه «المحرفة من الأقة أي الأوقيه» والتي تساوي كيلو وثلث أي ان مقياس المن لم يتغير إذ أن 12 حقه = 16 كيلو. وجدير بالملاحظة أن أغلب وحدة الأمنان وبالأخص الخليجية عندما تحول إلى الكيلو او الرطل او الحقه فإن العدد يكون زوجيا بحيث يمكن تقسيم المن الى النصف والربع وحتى الثمن أحيانا.

وتستخدم في كل من البحرين والقطيف وحدة وزن أخرى هي أثقل من المن وأخف من الطن، ألا وهي ”الرفعه“. والرفعة تساوي عشرة أمنان قطيفية وسبعة أمنان بحرينيه، وقد انتقلت فيما بعد الى الأحساء مع انتقال بعض البضائع كالعوم والمتوت «الاحساس بلهجة أهل الأحساء» وكذلك مع الربيان والاسماك المجففة وذلك في العقود الماضية حتى نهاية السبعينات حيث كان تجار هذه البضائع يستخدمون الرفعة نفسها وذلك عند البيع بموجب الشراء ومن قبلها لم تكن الرفعة مستخدمة في الأحساء وذلك لأن المن الأحسائي يقوم بمقام الرفعة إذ أن المن الأحسائي يساوي رفعة ونصف رفعة قطيفية. وتستخدم الرفعة لوزن أكياس العومه والمتوت «الاحساس» والحلى «الأسماك المجففه» والمشلق «الاسماك المجففه المشقوقة الكبيره» والربيان المجفف والسلوق وكذلك لوزن بندلات التتن المستورده، غير أن استخدامها أخذ في الأفول مع بداية الثمانينات من القرن العشرين الماضي وذلك لتغير نظام البيع والعرض لبعض مثل هذه البضائع ولتغير وسائل تعبئتها فلم تعد أكياس الخيش تنفع للتعبئة او عرضها في السوبرماركتات، بالإضافة إلى إنقراض بعض البضائع كالسلوق والعوم «العومه» وحتى بيع الربيان المجفف بكميات كبيره لغرض تصديره.

لقد بقي استعمال المن مستمرا حتى أيامنا هذه وذلك لما للناس من حاجة له في استخداماته المحدودة من أجل بيع بعض البضائع، فالمن الأحسائي «وهو 240 كيلو» وإن قل استعماله في هذه الأيام حيث أصبح استعماله محصورا فقط بين الفلاحين المتبعين للطرق التقليدية في وزن كميات التمور، فلم تعد الموازين التقليديه الكبيره والسنج ذات الأوزان الضخمة تستخدم بشكل شائع، كما أن نظام التعبئة المصنعية الحديثه والعبوات الصغيره لم تعد بحاجة لإستخدم الاوزان والميازين الكبيره وإن كانت الكميات كبيره فقد حل محلها استعمال الميازين الحديثة ونادرا ما يحول للمن وقد أصبح أيضا استعماله محصورا داخل المنطقة.

أما الأسباب التي مدت في استمرارية استعمالات وحدة المن القطيفي وانتشاره على مدى واسع حتى أيامنا هذه فترجع لعدة عوامل اهمها مايلي:

أولا: إعتدال مقدار المن القطيفي بين الأمنان الخليجيه؛ فهو ليس بالمقدار القليل الملاصق والقريب جدا من الوحدات الصغيرة كالكيلو أو الرطل او الربعة أو الحقة بحيث لايصعب عد الوزن بالكيلو بدلا من المن، كما أنه ليس بالمقدار الكبير جدا بحيث يتعدى مقداره لينحصر استعماله في الكميات التجارية الكبيره جدا فقط والتي لايمكن التعامل بها إلا على المستوى التجاري الكبير دون الكميات الاستهلاكيه الأسريه أو ما يتعامل به باعة الكميات الصغيره وذلك في حالتي البيع والشراء؛ فمقداره فقط 16 كيلو، وهذا وزن في متناول جميع المستويات عند البيع والشراء.

ثانيا: طبيعة أرض القطيف الزراعية والبحرية بالإضافة إلى موقعها على شواطئ الخليج العربي مكناها من انتاج بضائع معينه تفتقر إليها بعض المناطق المجاوره من دول الخليج وكذلك بعض المناطق السعودية الداخلية؛ فالرطب والسلوق والتمور التي تنتجها أرض القطيف والأحساء تصدر لبعض دول الخليج «كما سيرد لاحقا»، ومن ناحية أخرى ثروتها السمكية الهائلة التي تصدر إلى لمناطق الداخليه المجاوره من المملكه كالأحساء والمنطقة الوسطى وغيرهما وحتى الدمام لكون الدمام متخصصة في التجارة لا الصيد، كل ذلك جعل منها أن تفرض وحدة الوزن الخاصة بها وهوه المن القطيفي إذ أن الوزن اثناء بيع الكميات الكبيرة على تجار الأسماك والربيان هي بالمن القطيفي.

ثالثا: لما للقطيف من استراتيجية موقع تجاري بين عدة مدن ومناطق حديثة لاتمتلك نظاما مستقلا لوحدة المن وكذلك لأن القطيف هي مصدر كثير من البضائع التي يعتمد وزنها على وحدة المن فقد تبنته هذه المناطق الحديثه المجاورة عند الوزن وذلك في حالتي البيع والشراء، ومن تلك المدن الدمام والخبر والثقبه والظهران ورحيمه ورأس تنوره والجبيل وغيرها من المناطق المجاوره.

رابعا: لتوسط كلا من واحتي الأحساء والقطيف كمنطقتين زراعيتين بين بعض دول الخليج وقد كانتا في زمن مضى تمدان بعض هذه الدول ببعض المنتجات الزراعية كالخضار والرطب وغيرها، وقد كانت وحدة الوزن المستخدمه لكل من الأحساء والقطيف عند وزن عذوق الرطب في كل من قطر والكويت هي وحدة المن القطيفي «16 كيلو» وقد استمر هذا حتى بداية الثمانينات من القرن الماضي «القرن العشرين». كما أنه في فترة زمنية «الستينات والسبعينات من القرن العشرين» انتشر استعمال المن القطيفي في الأحساء وذلك لتصديره مع بعض المنتجات البحريه كالربيان الجاف والعومه «العوم» والمتوت «الإحساس المستخدم لعمل الإدام» إذ كان العوم يجلب من دول الخليج عن طريق جمرك فرضة القطيف حيث يستورده تجار القطيف لما له من اهمية لتغذية الماشية وكذلك لتسميد الزراعه، وقد بات من الضروري ان يجلبه تجار الاحساء من القطيف الى الأحساء ومن ثم بيعه بنفس نظام وحدة قياس وزن القطيف «المن 16 كيلو» وذلك بنفس موجب شراءه لكي لا تحدث خلخلة بين نظامي البيع والشراء عندهم. وإلى أيامنا هذه وخصوصا في موسم الفسح بصيد الربيان حيث ينتشر البائعون المتجولون القطيفيون او غيرهم ليتم البيع في تلك المناطق إما بنظام الكيلو أو بالمن القطيفي.

خامسا: ترويج استعمال المن القطيفي مع ترويج البضائع المتخصصة فيها القطيف؛ فسوق سمك القطيف والتي كانت في فترة زمنية

- كما جاء في احصائيات ذكرت في احد أعداد مجلة الاقتصاد السعوديه - وكذلك كما أشارت إليه جريدة الرياض الإقتصادي في عددها 15790 الصادر في يوم السبت 19 شوال 1432 الموافق 17 سبتمبر 2011م أنها اكبر سوق سمك في الشرق الأوسط من حيث حركة وكمية البيع والشراء. حيث يقول النص: ”يشار إلى أن سوق السمك المركزي في محافظة القطيف يعد أكبر سوق لبيع السمك في الشرق الأوسط من ناحية حجم المبيعات والكميات التي تداولها.“

فبات من المعروف أن سوق أسماك وربيان القطيف تزود جميع اسواق اسماك المملكة، وبما أن نظام البيع فيها يستخدم وحدة وزن المن القطيفي «وهو 16 كيلو» فقد انتشر نظام الوزن بوحدة المن القطيفي مع انتشار بيع الأسماك والربيان ليعم انحاء المملكه بما فيها حتى بعض المناطق البحريه الأخرى كجده وينبع وجيزان وغيرها إذ أن الكثير من سكان تلك المناطق يفضلون بعض أنواع الأسماك الخليجية والربيان «الجمبري» لكثرته كما وتجلب بعض اسماك تلك المناطق للقطيف، فلا مناص لها من استخدام وحدة المن القطيفي عند شرائه اوبيعه بكميات كبيره.

سادسا: أنه في فترة زمنية وخصوصا بين الستينات والسبعينات من القرن الماضي كثر عدد البحارة العمانيون في منطقة القطيف بين صيادين في منطقة القطيف وبين جالبي اسماك من عمان وخصوصا بعد أن عبدت الطرقات البريه بين دول الخليج فكان تعاملهم مع أهالي القطيف بالمن القطيفي «16 كيلو» لا العماني «4 كيلو»، لذا عند جلبهم الأسماك العمانية للقطيف فإنه كان يتوجب عليهم حصر تلك الكميات المستوردة ووزنها بنظام وحدة المن القطيفي.

سابعا: لا يفوتنا أن نذكر أوزان كلا من الربيان المجفف والسلوق وقلال التمر التي كانت تصدر الى مناطق أبعد من دول الخليج فالربيان المجفف كان يعبأ في حاويات «التنك» أو الخيش للتصدير وعند التعبئة يستخدم المن القطيفي كوحدة لوزنه. وأما المسافرون من أهالي المنطقة فيما مضى سواءا في عصر السفر على الجمال أم في العصر الذي تلاه حيث السفر بالشاحنات أو الباصات القديمه فقد كانوا يستهلكون اثناء سفرهم كميات من ذلك الربيان المجفف والحلى «الأسماك المجففه» لسهولة حمله وحفظه من التعفن وإعداده كطعام لهم فكانوا يشترونه بنظام الوزن بالمن القطيفي وذلك عندما يعبأ في حاويات التنك أو الخيش.

كما أن الربيان المجفف الذي كان يصدر الى بعض بلدان فارس والعراق بعد تعبئته في حاويات التنك او الخيش كان يوزن بنظام المن القطيفي، وكذلك السلوق وهو الرطب الذي يسلق ثم يجفف ويعبأ في اكياس الخيش ويحتوي كل كيس خيش على أربعة أمنان قطيفيه من السلوق «64 كيلو» ليصدر من ميناء القطيف ليصل إلى الهند وإيران بنظام وزن المن القطيفي. ولاننسى قلال التمر وهي ظروف او حاويات تحاك من خوص النخيل على شكل زنابيل كبيرة جدا تعبأ فيها التمور ويحكم اغلاقها، وتحتوي على كمية من التمور تزن منين قطيفيين اثنين ثم تصدر إلى كثير من دول الخليج بوزن أمنان القطيف. ويذكر لويمر/ دليل الخليج ج6 أنه كان يصدر الفائض من تمور القطيف البالغ وزنها 24 ألف طن «أي مايعادل 750 ألف قله» يصدر أغلبها إلى إيران وعمان والخليج والهند.

وللطين الخويلدي دوره الكبير في اشتهار المن القطيفي أيضا، إذ أن الطين الخويلدي والمستخرج من مقالعه في اسفل جبل البراق غرب الجارودية والممتد لحدود الخويلديه شمالا هو طين له تركيبة معدنية متميزه مفيدة لبشرة جسم الإنسان وتنظف الشعر وفروته وتنعمه، وقد اشتهر هذا الطين منذ القدم في جميع أنحاء دول ومناطق الخليج وكان عليه إقبالا شديدا ولازال يطلب حتى أيامنا هذه من قبل من يعرفونه في الكويت والبحرين ولايزال يباع بكميات كبيرة في البحرين بنفس الإسم، وكان بائع الطين الخويلدي يتجول به في أنحاء قرى ومدن القطيف فيملأ حاويتين كبيرتين من الخوص تعرف بالمرحلة توضع على جانبي الحمار وفي أثناء تجواله ينادي بصوت مرتفع ”طين خويلدي“ فيسمعنه النساء ويخرجن من بيوتهن لشرائه بالوزن ”بوحدة الربعة وكان قبلها وحدة الحقه ثم الكيلو فيما بعد“. أما عند بيعه بكميات كبيرة على الموزعين في أنحاء الخليج فإنه يباع عليهم بنظام وزن وحدة المن القطيفي.

وهكذا نلاحظ أن نفس العوامل التي أعطت المن القطيفي تلك الشهرة الذائعة الصيت والمنتشرة في أنحاء الخليج والجزيرة العربية لاتزال محافظة على امتداد استعماله حتى أيامنا هذه وإن انقرضت كثير من تلك البضائع ومعها ميازينها وسنجها التقليدية إلا أننا لانزال إلى يومنا هذا نرى فواتير لمئات الأطنان من الأسماك والربيان التي تخرج من سوق ”الجزازيف“ بالقطيف يوميا إلى جميع انحاء المملكة تكتب عليها الأوزان بالمن القطيفي، وعليه تباع بنفس النظام في كل مكان في المملكة.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 2
1
مريم
6 / 2 / 2018م - 1:08 ص
مقال رائع ... ومعلومات جميلة لأول مرة نعرفها عن المن القطيفي والقطيف المغبونة
2
هاني إبراهيم عباس
[ سيهات ]: 1 / 10 / 2020م - 7:34 ص
بوركت ووفقت أستاذي عبدالرسول، توثيق مهم وبحث موفّق في تثقيف الأخوة في مناطق المملكة المجاورة والبعيدة عن ماهية وأصل هذه الوحدة الفريدة. فالكثير من المناطق يسمع بهذه الوحدة لأول مرة بل ويستخدم وحدات أخرى تماشياً مع ما توارثوه وليس بعيب.

بارك الله في جهودكم لإكمال المسيرة التراثية التي تصدّيتم لها وأنتم أهل لها.

طالبكم بمدرسة سيهات الثانوية (1992)