آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 7:25 م

قالب الحلوى

طاهرة آل سيف

للنفس البشرية شَرَاهَة جامحة نحو نبذ كل ماخالف هواها ومزاجها، ناهيك عن اختلاف الأراء والأديان والعقائد ولستُ في سبيل الحديث عن ذلك، الحلقة أصغر بكثير لكنها أكثر تعقيداً! لثمة رغبة سوداء توَّاقة للإنتقاد، هذه الإنتقادات إما أن تُقصيك إلى زاوية بعيدة عن المجتمع أو تصهرك في قالبِ الحلوى الذي أراد الناس أن يصبو خليطك به، إن اخترت أن تصب نفسك في هذا القالب فلابد لك أن تعد خطواتك قبل أن يعدها عليك جارك، ستفكر بما يدور برأس الآخرين عنك ألف مرة، وستفكر بما يدور برأسك مرة واحدة، ستلبس حسبما يروق لهم منظرك، ستأكل مما تشتهيه موائدهم، ستسافر إلى مايرتؤن به الراحة والإستجمام، ثم أين أنت؟ أنت بعيداً كل البعد عن نفسك لكنك مازلت تتمدد على منضدة المجهر!

وإن اخترت أن تكون في الزاوية البعيدة وتعيش حسبما تحب، وتحلق بأقصر جناحٍ لحريتك الشخصية فسيظهر لك مجموعة من الحمقى فيدلون بدلوهم الأخرق ويسكبونه على ثوبك على فرض أنهم أكثر خبرةً ومعرفةً منك! ثم تعيش ضرباً من الغربة وأنت بين عائلتك ومجتمعك، إن تحدثت بمنطقٍ لايعرفونه قالوا فيلسوفاً، إن سلكت طريقاً غير الذي سلكوه قالوا مثالي، وإن اتسع قلبك لحماقات الآخرين قالوا متصنع!

الحكايات مختلفة لكنها تنتهي بك إلى نفس المطاف، يحدث أن تُكسَر نفوس لكلمات لاذعة بإنتقادات لا طائل منها، ما منفعة أن تزور صاحبك وتناقشه في طلاء بيته مثلاً، وثم تقترح عليه مايروق لك من ألوان، فيستكره ذوقه ويتذكر صدى صوتك الناقد كلما أجال بصره في ذاك الركن، ماذا يعني أن تنتقد على صديقك إسم مولوده وتعطيه معروضة من الأسماء التي تروق لك أنت! هل هو ابنك أم ابنه؟ ماذا يعنيك إذا كنت تحب السفر وجارك لايُسافر؟ مالضير لو اختلف عنك الناس في طريقة حياتهم! والأمرُّ من ذلك حين تتشابك حبائل الشيطان فيخنق بها كل العلاقات الناجحة، ثم يسلِّم لك الحبل، فتقوم أنت بلف الحبل على رقاب الناس وتضيق عليهم رغدة العيش، ويبتسم ابليس لك من بعد ويلوح لك على حسن صنيعك، ما الذي تحققه حين تفتح أبواباً اجتمع أهل بيتٍ على أن يغلقوها فترمي بشررك باقتراحات حمقاء بائسة، تشعل بها ناراً وتحرق عليهم دارهم، يُحكى أن الإمام علي كان يجعل محمد ابن الحنفية في مقدمة الجيش والحسن والحسين على جانبيه خلف الصفوف، فجاء رجل لابن الحنفية وقال: مابال أباك يجعلك في مقدمة الجيش والحسن والحسين على جانبيه، أولاد فاطمة أحبُّ إلى قلبه منك أنت وأخوتك لاشك! فقال له ابن الحنفية: الحسن والحسين عينا أبي وأنا وأخوتي يديه والرجل يدفع الأذى عن عينيه بيديه، لكم كان حجراً قاسياً ألقمه إياه وسدد له رميةً في منتصف عينيه وبذاك سد بابه وباب شيطانه، كم من نصيحة زائفة من شخصٍ أحمق أراد أن ينفعك فيضرك، يرتئي لكَ حياةً تشبه حياته ونمطٍ يشبه نمطه، يحاول أن يحصرك معه بنفس الدائرة فيدور معك وتدور معه ولاشيء غير ذلك! ينصِّب نفسه على منبر للنصيحة فيقترح على هذا ويعول على أمر ذاك، ثم ماذا؟ إما إرضاء لذاته الباهتة التي عجزت أن تبصر بهجة الألوان!، أو هي غيرةً حارقة يريد أن يطال بها كل من تفوق عليه خلقاً أوصبراً أو عطاءاً، منبر السوء ذاك الذي زيفته بالنصح كان أبلغ لو تنزل منه وتقرب النظر على نفسك وحياتك وكفى! وكن كما قال أمير المؤمنين «كن كالنحلة إذا أكلت أكلت طيباً وإذا وضعت وضعت طيباً وإذا وقعت على عودٍ لم تكسره».

نعيش بزمان يسير بنا كخبط عشواء مابين انتقاد ونصيحة، ومابين احترام الناس وأداء حقوقهم وبين احراز اعجابهم ورضاهم، حين كنا صغاراً علمنا الكبار أن نحافظ على حق الجار فلانزعجه ولا نؤذيه وحبذا لو نلنا محبته، الأخيرة هذه أماتت فينا الكثير فصار همنا حب الناس ورضاهم ونيل إعجابهم بكل الأثمان من غير أن نستحضر في كثير من الأحيان «أن رضا الناس غايةً لا تدرك»، ويبدو جلياً اختلاط الأمر علينا حين نخاف أن نظلمَ أحداً حقه فنسارع لرضاه وهذا مالاطاقة لبشر على بشر أن يحرزه، طُبعت النفس على حب الإطراء والنفور من النقد وهذا ماجعلنا نستميت سعياً وراء آراء الآخرين! وقد نكون مثلهم نتتبع على الآخرين تحركاتهم وننتقدها إن لم تشبهنا وتروق لنا والحلقة مفرغة ندوّرها بين أصابع المجتمع كافة ً، ولكن أين أخذ بنا الركب؟ لم نتجاوز ترتيب العالم الثالث بعد، هدم الإنتقاد فينا طوابق ودرجات عالية لما يمكن أن نكون عليه من الإبداع والمكانة العالية بين المجتمعات!

وبالآخر يلد الزمن لنا من يحركنا كالقطيع ويروق لنا ذلك، بقيادة أفراد نكرة في المجتمع بعقول خاوية واهتمامات لاتثمر بالعقل البشري شيئاً فيختار لك لبسك وأكلك ووجهة السفر وتتوسع الدائرة أكثر فتطال منطقك وكلماتك وطريقة تفكيرك، ألفاظ مستحدثة متشابهة يتداولها الناس واهتمامات سطحية لامعنى لها تشغل الأغلب والأعم! تكاد تختفي الطبقية الإجتماعية في هذا الزمن فجميع الناس متساوون في طريقة العيش وإن لم تتساوى المادة فقد تساوت الإهتمامات، اتذكر عندما كنتُ في عمر السادسة عشر وقبل ما أسميه اجتياح وسائل الإتصال عندما أزور منزل إحدى الصديقات أجد بصمة خاصة لكل عائلة، طريقتهم في الحياة مختلفة، يتفردون بذائقة خاصة بهم! لم تمسها هجمة التكنولوجيا بعد وتموعها وتذيبها مع المجتمع! تفكيرهم كلامهم ابتداءاً بالتربية وانتهاءا لتقديم الطعام للضيوف، كل منزل له هوية تخصه وتشبهه، وكم كان اختلاف جميل متناغم تستشعره بحواسك ويرسخ بذاكرتك ولاتنساه، في وقتنا الحالي كل زياراتك لجميع الناس بلاطعمٍ خاص، ابتداءاً بحداثة الضيافة مع أنواع القهوة وانتهاءاً بالأحاديث حول نفس الإهتمامات، لاهوية خاصة ولاتدري مايقولونه يستهويهم أم يستهوي الذين يحركونهم خلف الشاشات، أحاديث وآراء أرادتها لهم أيادٍ خفية تسوقهم إلى كل وادٍ وهم في أتم البهجة! باختصار لثمة سحر كان يختص به كل منزل وكل مكان وكل شخص، أبطله الزمن وتلاشى في الفراغ! كل ذلك نفتقده في وقتنا الحالي وسيفتقده أولادنا لاحقاً، حقاً أصبحنا كقالب الحلوى الذي يعجب الناظرين!

لا أدري حقيقةً هل سطوة العولمة جامحة لحد الطغيان؟ أم تراثنا الذي نشأنا عليه كان مغلوطاً؟ أم لأن مجتمعاتنا بما تحمل من تقاليد ومواريث فرضت علينا أن نمشي جنباً إلى جنب مع من يشبهوننا بدئاً بالدين والعرق وانتهاءاً بالسلوكيات الحياتية، والإبتعاد عمن يخالفنا خوفاً من ضياع الهوية، فتغلغل ذلك حتى أعمق نقطة في حياتنا.

وكلما قرأتُ «إنا جعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا» أرفع رأسي وأرى كم هو عالً ذاك الجدار الذي نعيش خلفه بنيناه بأيدينا وأصبحنا متشابهون جداً متشابهون لحد الملل!