آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 4:57 ص

”البيانات الضخمة“ بحاجة لمبادرة وطنية

الدكتور إحسان علي بوحليقة * صحيفة مال الإلكترونية

إن كانت القضية عرضٌ وطلب، فلا اقبال يُجاري الطلب على البيانات، إذ تقول بعض التقديرات أن 90 بالمائة من البيانات التي ولدتها البشرية أنتجت في العامين الأخيرين.

في ”منتدى أسبار الدولي“، الذي عقدت النسخة الثانية منه في الرياض الأسبوع الماضي، تناولنت إحدى الجلسات ”البيانات الضخمة، فقال مُتحدث كريم أنها النفط الجديد، وذكرتُ في كلمتي أمام المنتدى أن البيانات الضخمة هي“ الأرض" للثورة الصناعية الرابعة، كما نعلم أن النظرية الاقتصادية التقليدية تقول ان عناصر الانتاج ثلاثة: الأرض ورأس المال واليد العاملة. أما في وقتنا الراهن، وهو حقبة الثورة الصناعية الرابعة، فالبيانات هي التي تتطلب رأس مال وراس مال بشري لتتحول من حالةٍ إلى حالةٍ، لتتولد قيمة مضافة نتيجة لذلك التحول، وبالتالي الانتاج وتراكم الثروة.

فالبيانات توجر، وتباع، وتشترى، وتحلل، وتقوم عليها نماذج وسيناريوهات، وهي القوة الدافعة للقرار وللأدوات الرئيسة المرتكزة على الذكاء الاصطناعي والروبوتات وانترنت الأشياء. ولهذا كله فليس من المبالغة القول أن ”الثورة الصناعية الرابعة“ هي ثورة مرتكز إلى البيانات «data - driven»، فمن يملك البيانات يملك ناصية الأمر. ولذا، نجد أن دولً محورية أطلقت مبادرات وبرامج حكومية للاهتمام بالبيانات الضخمة وتطوير أدواتها المتعددة، ومثال على ذلك مبادرة البيت الأبيض للبيانات الضخمة التي أطلقها في العام 2012 ورصدت لها 200 مليون دولار، والأمثلة عديدة. ولذا، فمبرر مبادرة وطنية للبيانات الضخمة برعاية سامية، وتهدف المبادرة الارتقاء بتعاملنا مع البيانات الضخمة ذات الصلة بالاهتمامات الوطنية من حيث البنية التحتية، والتحليل والنمذجة، والموارد البشرية المؤهلة.

وإن كان من تخلف معلوماتي يعيشه مجتمعنا، فلا يتعلق بالأجهزة والمعدات من حواسيب وخوادم، ولا من حيث البنية التحتية، ولا أقول إن ما لدينا هو الأفضل، لكن ما لدينا يعتبر من بين الأفضل في فئتنا من الدول النامية. أما التخلف فهو في تعاملنا مع البيانات إجمالاً، وقد كتبت عن هذا الأمر في هذا مراراً، ولن أكرر، لكن أقول إن البيانات هي الثروة الحقيقية، وليست الأجهزة التي تبوبها وتعالجها، فمنذ ما يزيد عن عقدٍ من الزمن تحولت الأجهزة الحوسبية إلى سلع مبذولة تعرض على قوارع الطريق بأسعار بخسة.

أذكر كيف أن أول حاسب شخصي اقتنيته من نوع «أبل2» كانت ذاكرته 64ك، وقد اشتكيت حينها لأستاذي من بطء الجهاز، فقال: ماذا كنت ستقول لو كنت من جيلي عندما كانت هذه الذاكرة تشغل كمبيوتر ضخم! الآن. انظر حولك في أقرب محل لبيع الكمبيوترات ومستلزماتها فتجد حواسيب حجرية «laptop» بقوة معالجة خرافية وذاكرة ذات سعة من الصعب تصورها، وأقراص صلبة سعتها تقاس ب «التيترات"!

إذاً، هناك وفرة في الحواسيب وطاقتها المعالجية، مقرونة برخص نسبي مما يجعلها في المتناول، وليس أدل على ذلك مما نشهده من انتشارها في كل يد، وليس وفي كل بيت. وأعود لأقول إن الثروة الحقيقية هي البيانات؛ فمنها يمكن استخراج قيمة مضافة؛ وقد انتشرت مؤخراً بعض التعليقات تستهين بتخوف البعض منا من إفشاء بياناته الشخصية! ولا يجدر بأي منا الاستهانة، والسبب أن تخوف أي شخص منا على انتشار قوائم معارفه وعلاقاته الشخصية والمهنية تخوف في محله، فهي تمثل أسراره وخصوصياته، وينطبق الأمر ذاته على الصور ومقاطع الفيديو، والتي تعكس اهتماماته. هذا جانب لا تجب الاستهانة به، لكن ثمة جانب أعم، وهو بيانات ملايين البشر، وشبكات معارف كل منهم، وأنماط الاتصال، والاهتمامات والتوجهات والتحيزات.

تطبيقات «التواصل الاجتماعي» قائمة على أساس واحد وهو «الشبكة» والتشابك، وتطوره عبر الزمن أمر يفضي للكثير من الاستنتاجات. وفي وقتنا الراهن، يرتكز علم البيانات «data science» إلى دراسة خصائص البيانات باعتبار أنها أساس المعرفة، فالبيانات المتناثرة عن شخص أو حتى أشخاص قد لا تحمل أسراراً خطيرة على الأمن الوطني والسلم الاجتماعي، لكن توليف البيانات ومضاهاتها لآلاف البشر يعني الشيء الكثير؛ تصور لو أن أحداً تمكن من جمع وتحليل بيانات التراسل على مستوى الحي حيث تسكن، ليعرف تفاصيل حياتية لا تمثل لأي منا أهمية كبيرة؛ مثل من أين تشتري المقاضي، وأين تكوي ملابسك، وأي مقهى يرتاد سكان الحي، الخ. بيانات من هذا النوع يمكن أن تكون ثروة لوضع استراتيجية تسويق أو افتتاح محلات جديدة لمنافسة ما هو قائم.

الآن، بناء لوحة ضخمة من قطع وشظايا بيانات متناثرة هنا وهناك هو علم البيانات الضخمة. والبيانات الضخمة متعددة المصادر والخصائص، والجهد هو قولبتها لتصبح سنداً لاتخاذ القرار في مجالات الأمن والسياسة والاقتصاد بقطاعاته وأنشطته المتعددة، وهناك من يحرص أن يبني لوحات «فسيفسائية» ضخمة من نثار بياناتنا، كل ما هو مطلوب منا كأفراد وكمجتمع أن نتعامل بوعي مع الأمر، وليس أكثر. ولا أقصد بالوعي مجرد التوجس، بل التعامل الواعي هو القائم على أمرين أساسيين: أن للبيانات الضخمة قيمة أمنية واجتماعية - اقتصادية هائلة، أن امتلاكنا لأدوات التحليل والنمذجة سيمنحنا قوة ومَنعة. لذا، هناك ما يبرر أن إطلاق مبادرة وطنية للبيانات الضخمة لا يقل أهمية من الناحية الاستراتيجية عن جعل التصنيع العسكري المحلي أحد مستهدفات رؤية المملكة 2030.

كاتب ومستشار اقتصادي، رئيس مركز جواثا الاستشاري لتطوير الأعمال، عضو سابق في مجلس الشورى