آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 11:39 م

في الديمقراطية والممارسة الديمقراطية

رائد قاسم *

تابعت ما طرحه الفنان ناصر القصبي في مسلسه ”سيلفي“ حول الديمقراطية في المجتمع العربي، حيث قال بأن الديمقراطية اذا ما طبقت في مجتمع يقوم على الولاءات المذهبية والطائفية والقبلية فإن النتيجة ستكون نشوء سلطات رسمية للقوى ما دون الوطنية، تمارس عبرها نزعاتها من خلال المؤسسات التنفيذية والتشريعية، مما يساهم في ترسخها كقوى تعلوا على الدولة والقانون.

إن هناك ثمة تباين غير منظور بين الديمقراطية والممارسة الديمقراطية، ففرق كبير بين ان تكون ديمقراطيا وبين ان تمارس الديمقراطية، فالديمقراطية تقوم على الدستور المدني والنظم المرتبطة به «كالفصل بين سلطات الدولة الثلاثة، ووجود قوانين واضحة للحريات الفردية وحقوق الانسان، ومؤسسات مجتمع مدني مستقلة» ويمارسها مجتمع يستند على المدنية كإطار لإدارة شئونه.

ومن اهم التشكيلات التي تقوم عليها الديمقراطية ”الاحزاب السياسية البرامجية“، وبالتالي فإنه لا مجال لاي هويات فرعية او تشريعات قائمة على غير الاستناد على الدستور المدني، ولا محل لأي تجاذبات او تنافسات خارجة عن نطاقة «كالذي يحدث في البرلمان الكويتي في بعض الاحيان من نقل الصراع المذهبي من الشارع الديني الى قبة البرلمان ومؤسسات الدولة».

ان الدول الديمقراطية العريقة تغيب فيها الهويات الاثنية لصالح سيادة الهوية المدنية، وهذا يشمل كافة الاحزاب بما فيها الاكثر محافظة والأكثر التصاقا بالتقاليد، كالحزب الديمقراطي المسيحي الالماني مثلا، الذي وأن كان محسوبا على التيار المحافظ، الا انه يبقى حزبا مدنيا محضا، وتعود جذور كلمة ”مسيحي“ في مسمى الحزب الرسمي لحقبتي السبعينات والثمانيات التي شهدت صراعا بين القوى الراسمالية الليبرالية والقوى الشيوعية الاشتراكية، حيث كانت القوى الراسمالية تدعم الاحزاب والتيارات المحافظة لتشجيعها على مواجهة الشيوعيين، ومن ضمنها الاحزاب المسيحية، إلا انها لم تكن يوما احزاب عصبوية او فئوية بل احزاب مدنية، تضم مختلف المشارب والمدارس الدينية والايدولوجية، حيث تتحرك وتنشط في ظل الحزب والمجتمع السياسي المدني القائم على الدستور والقانون.

فالديمقراطية في العالم الغربي ثقافة وقانون، أي انها نظام وأداة، بينما في عالمنا العربي مجرد اداة وممارسة، حيث تتضاءل الاحزاب البرامجية المدنية في مقابل قوة الاحزاب العصبوية والشعبوية التي تتحرك في ظل بيئة كانتونية مليئة بالامراض والادران العميقة.

عندما اعلنت البحرين ميثاق العمل الوطني عام 2001 تأسست جمعيات سياسية قائمة على الانتماءات العصبوية، وكانت العلاقة بين اجنحتها وافرادها قائمة على الاطر القيادية السلطوية الهولية البعيدة عن التقاليد الديمقراطية.

لقد اذى ذلك الى تداعي الحياة السياسية من اول هزة، فمع تظاهرات 2011 عادت البحرين الى مربعها الاول، ففي عام 1973 حل البرلمان وعلق العمل بالدستور وعطلت الحياة النيابية، وسرعان ما حلت بعض الجمعيات، في مقدمتها الوفاق، وتوقفت مسيرة الاصلاح التي ابتدئت بميثاق العمل الوطني، ويعود هذا التراجع الى عدم تهيئة المجتمع من جهة، والنظم الدستورية، ومؤسسات الدولة، للممارسة الديمقراطية المدنية، حيث كان من المفترض حظر انشاء اية جمعيات قائمة على هويات دينية او مذهبية او طائفية او عرقية، اضافة الى عدم انشاء بيئة سياسية مناسبة، وسن تشريعات واضحة، تفضي الى نشوء تجربة ديمقراطية ناجحة.

هذا هو داء العراق اليوم، إذ تسوده حتى الان احزاب الاسلام السياسي التي لا تزال تحتفظ ايضا بأجنحة عسكرية مسلحة خارج مؤسسة الدولة، وكذلك لبنان، حيث تقيد الجذور الطائفية ذات الامتدادات المفتوحة خيارات الاحزاب والقوى السياسية.

من الطبيعي جدا ان تتحول الديمقراطية اذ ما تأسست في ظل مجتمع غير مهيء لها الى مجرد ممارسة، وتنحصر في الانتخابات التي تاتي بالقوى ما دون الوطنية لمواقع المسئولية، لتتجسد كافة النظم الغير ديمقراطية والغير مدنية، بل والمعادية للحرية كقيم اصيلة في المجتمع، اي انها تتحول الى مجرد اداة تمارس لتحقيق اجندة محددة بعيدة عن مخرجات الديمقراطية ونتائجها الطبيعية، فمثلا البرلمان الكويتي وعلى مدى اكثر من اربعين عاما حرم المراة الكويتية من حقوقها السياسية، بناء على اعتقادات دينية واطر اجتماعية متشددة، ولم يستند على الدستور الكويتي المدني الذي يحظر اي نوع من انواع التمييز ضد المواطنين، كما شرع البرلمان الكويتي عدد من التشريعات التي لا تتفق مع الدستور نصا ومضمونا، كما وتحول البرلمان الى ساحة للصراعات ما بين القوى الدينية والطائفية والقبلية، مبتعدا عن وظيفته كسلطة تشريعية ورقابية ليس له علاقة بالهويات الفرعية للمجتمع.

الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح رغم خروجه من الحكم، إلا انه ظل يمارس نشاطا سياسيا طموحا وغير شرعي انتهى بإستيلائه على السلطة في شمال اليمن بالتحالف مع الميلشيات الحوثية، وسرعان ما انهار تحالفهما وانتهى صراعه معها على السلطة بمقتله.

ان السلطة في العالم الثالث مفتاح الحرية الشاملة، والنفود الواسع، ومفتاح لكل الابواب المغلقة، وواسطة تعلو فوق كل قانون، وما دونها حياة في ظل قيود لا نهاية لها.

بينما في العالم الغربي فإن المساحة الواسعة من الحريات والحقوق في ظل النظام المدني القويم، يمنح الانسان الحقوق المتساوية بين كافة الطبقات والشرائح الشعبية، بما يكفل نشوء عدالة اجتماعية واسعة النطاق، تمكن الجميع من الحصول على فرص متساوية ومساواة قانونية، بما يؤدي الى انتقال المسئول الى مواطن عادي بكل تلقائية، فعندما غادر وزير الخارجية الامريكي جون كيري السلطة كان اول عمل قام به هو التظاهر مع الالاف ضد الرئيس ترامب.

في الديمقراطيات العريقة المنصب ليس سوى وظيفة ذات سلطات مقيدة، ولمدة محددة، بينما في عالمنا العربي المنصب سلطة وإرث وامتياز ونفوذ وقوة، يمارس من خلاله المرء ما لا يستطيع ممارسته اذا ما كان مواطنا عاديا.

ابو مسلم الخراساني، القائد العباسي، سألته زوجته لما لا تترك الحكم وتعيش بقية حياتك كأي شخص عادي وتتقي شر ابو جعفر المنصور. فأجابها بأنه إن خرج من السلطة فسيخرج من الدنيا ايضا! لان السلطة هي التي تحميه من اعدائه الذين يتربصون به، وتمنحه قوة لا تملكها الرعية.

ان الديمقراطية تعبير حقيقي عن رقي الشعوب وتحضر الامم، وما لا شك فيه ان عالمنا العربي لن يتمكن من الوصول اليها ما لم يتجاوز ازماته العاتية التي تعصف به منذ مئات السنوات.