آخر تحديث: 24 / 4 / 2024م - 11:56 م

العزلة والكاتب

محمد الحرز * صحيفة اليوم

هل العزلة من متطلبات الكتابة وفروضها؟ ثم ماذا نعني هنا بالعزلة من جهة والكتابة من جهة أخرى؟

لا تخلو حياة أي كاتب مبدع أو مفكر أو فيلسوف من هواجس تتصل من بعيد أو قريب بالكلام حول أهمية العزلة للكاتب، وكذلك الأثر الذي تتركه على عقليته وذهنه وروحه. وهناك الكثير من تجارب الكتاب التاريخية، أولت عناية فائقة بموضوع العزلة. البعض من هؤلاء جسدها في حياته دون أن يتطرق إليها في منجزه الكتابي ولو بكلمة واحدة، والبعض الآخر كان العكس تماما أبحر في الحديث عنها دون أن تحتل مساحة ولو بسيطة في حياته، وهناك من كانت حياته بين بين، أخذ من هنا طرفا من الخيط، ومن هناك أخذ طرفه الآخر، حسب ما تمليه عليه ظروفه الحياتية.

هذه الأصناف الثلاثة التي ذكرتها في علاقتها بالعزلة لا أقصد منها سوى الكتاب الذين عاشوا تحت ظلال الحياة المعاصرة، وتحت تأثير ثقافتها التي ترى في عزلة الكاتب علامة كبرى على خضوع صاحبها للنداء الداخلي للذات، واستجابة أمينة للينبوع الروحي الذي تتغذى عليه الكتابة في تجلياتها العظمى. لقد سرت شرارة هذا المفهوم في مفاصل الثقافة المعاصرة، حتى أصبحت كلمة «العزلة» رديفا للمبدعين المشهورين «بول أوستر في اختراع العزلة» مارسيل بروست في البحث عن الزمن المفقود، بل أصبحت ضمن الكلمات المتأملة في مجال الفلسفة، هيدجر على سبيل المثال.

ومن يبحث عن سبب الاهتمام المحوري لمعنى العزلة في الثقافة المعاصرة، سيجد الأسباب متنوعة منها ما يتصل بالجانب الاجتماعي التاريخي، أو الجانب الثقافي المعرفي أو الجانب السياسي والديني. لكن أكثر ما يلفت النظر في هذه الأسباب الأثر الذي تركته الحروب الدينية في أوروبا في القرن السابع عشر على ذهنية الكاتب في علاقته بالكتابة، وكذلك الأثر الذي تركه تطور العلم على نفسية الكاتب في تفضيله للركون إلى العزلة. وزاد الطين بلة ما جرى في القرن العشرين من طرف القوى الكبرى في سعيها الحثيث في تدجين معظم الكتاب كي ينخرطوا في أيديولوجية هذا الطرف أو ذاك، وكان الهروب إلى العزلة هو واحدا من الأسلحة التي لجأ إليها الكاتب لإنقاذ نفسه من الوقوع في فخ تلك الإيديولوجيات.

قد يقترب معنى هذا المفهوم، حين نضعه على محك المقارنة التاريخية بين العزلة باعتبارها حالة هروب عن مخالطة الناس والتوحش من مجالستهم والتقرب منهم، والعزلة بالمفهوم الإبداعي الذي أشرنا إليه أعلاه. الحالة الأولى كانت تتصل في فترات تاريخية عند بعض الكتاب بتصوراتهم عن الوظيفة التي كانت تنهض بها الكتابة عندهم، حيث برزت على سبيل المثال في التاريخ الإسلامي فئة كتاب الدواوين وهي فئة حظيت بمكانة رفيعة وعليه كانوا يأنفون عن مخالطة العامة بينما العزلة في الحالة الثانية تعني الابتعاد عن الناس لصالح العملية الإبداعية فقط.