آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 2:48 ص

فخري باشا والتركة العثمانية

ميرزا الخويلدي * صحيفة الشرق الأوسط

من ينكش عشّ الزنابير، عليه الاستعداد لتلقي اللسعات!، والتاريخ ليس مجرد عشّ زنابير، بل هو تابوتٌ مسكونٌ بالثعابين من يرفع غطاءه سيواجه أفاعي متلهفة للانقضاض عليه!.

ما ضرّ أن تتطهر الذاكرة من آثام التاريخ، لكي يتصالح الإنسان مع حاضره ويسير نحو المستقبل دون ضغينة أو ندوبٍ في الذاكرة؟!

قبل عام فعلها الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، حين سعى لتطهير الذاكرة التركية من الحيف الجائر بحق العرب، مفنداً أسطورة راسخة في الخيال العام التركي، حيث خاطب مواطنيه قائلاً: «حان الوقت للتخلي عن كذبة أن العرب طعنوا الأتراك من الخلف»، في إشارة إلى أحداث «الثورة العربية الكبرى» سنة 1916.

حسناً، لماذا يعيد الرئيس التركي «نكش» الذاكرة من جديد؟!، حين شنّ هجوماً عنيفاً للدفاع عن رمز تركي عثماني هو فخري باشا؟. الرئيس هنا حاول استمالة القوميين الأتراك باعتباره مدافعاً عن رموزهم القومية، لكنه في المقابل أثار استياء ملايين العرب الذين تحفل ذاكرتهم بالمآسي التي خلفها القادة العسكريون الأتراك في بلادهم. «سفر برلك»، كلمة مخيفة ومرعبة، تعني «التهجير»، والتهجير القسري، هذه الكلمة لم يعرفها العرب في الجزيرة العربية والشام إلا على يد القادة العسكريين الأتراك، أمثال فخري باشا وجمال باشا السفاح، وغيرهما. لقد أدت سياسة التهجير القسري «سفر برلك»، إلى تمزيق النسيج الاجتماعي للمدينة المقدسة... وأمامنا مثلاً، شاهد عيان، هو الكاتب عزيز ضياء الذي يؤرخ في ثلاثيته: «حياتي مع الجوع والحب والحرب»، ظروف الحياة الصعبة في المدينة المنورة، وفي مناطق متعددة من الشام، رغم أنه عاصر تلك الفترة المدمرة وهو صغير في السنّ.

يقول عزيز ضياء: «عرفتُ الجوع... الجوع الذي يمزق الأمعاء، الجوع الذي جعل وجبة الخبز الأسود أشهى وألذ وجبة تذوقتها حتى اليوم» «ج1، ص 13».

ويصف ما جرى في المدينة المنورة قبل هزيمتها، قائلاً: «لقد جاع أهل المدينة الذين هجرهم فخري إلى سوريا... جاعوا بل ومات الكثيرون منهم جوعاً... لكن قوات فخري نفسها جاعت في النهاية أيضاً... ذلك الجوع الذي جعلهم يأكلون لحوم الخيل والبغال والحمير التي تنفق من الجوع... بل ويأكلون لحوم القطط والكلاب... ولا أستبعد صحة أخبار قالت إن بعض الجياع قد أكلوا لحوم أطفالهم» «ج1، ص 163».

لا يختلف فخري باشا، عن جمال باشا «السفاح»، ولا عن سليم الأول، ولا عن كثير من السلاطين والقادة الحربيين للدولة العثمانية الذين بسطوا نفوذ إمبراطوريتهم بالقوة والتنكيل وقهر السكان المحليين. في الحقبة التي حكم فيها جمال باشا الشام عام 1914 «نحو عام واحد»، حفر في الذاكرة أخدوداً من القهر والعذاب، حمل هذا الرجل شعوراً بالكراهية والبغض للعرب، واعتمد سياسة البطش والتنكيل بهم، وقام بإعدام نخبة من الرموز الوطنية والمثقفين العرب في سوريا ولبنان، وساق المناضلين إلى ساحات الإعدام «ساحة المرجة في دمشق»، و«ساحة البرج في بيروت». وللعلم فقد عرفت ساحة المرجة وسط دمشق بساحة الشهداء تخليداً للرجال الذين أعدمهم جمال باشا السفاح شنقاً في هذه الساحة بعد محاكمات صورية في أغسطس «آب» 1915.

حكمت الإمبراطورية العثمانية ستة قرون، حافلة بالإنجازات والإخفاقات، بالحكم الصالح والحكم الفاسد، بالعدل والطغيان، وليس من العار أن يتخلص أبناء الجيل الحالي من ركام الماضي؛ لماذا لا يتصالحون مع الأرمن الذين ما زالت ذاكرتهم مضمخة بالأحزان والفجائع على المجازر التي وقعت بحقهم؟، ومع العلويين الذين يواجهون كل يوم اسم غريمهم السلطان سليم الأول، الذي يتهمونه بارتكاب الفظائع بحقهم بعد أن قررت السلطة الحالية تسمية أعلى جسر يربط بين قارتي آسيا وأوروبا باسم «جسر السلطان ياووز سليم»..؟

لا يمكن لأحد أن يسير نحو المستقبل وهو يحمل كل هذا الركام فوق ظهره، سيقع ويتعثر الخطى، وسيجد نفسه قبالة هذه التركة الثقيلة المشحونة بالتعصب والكراهية، ولذلك فكل حروب التاريخ وأحزانه وفجائعه لا بد أن تودع في المتحف يتأملها الزائر كي لا ينسى، وكي لا يعيد أخطاءها، وليستفيد من تجاربها، لكن ليس عليه أن يصنع منها قبوراً ويقف حارساً لتلك المقابر.