آخر تحديث: 25 / 4 / 2024م - 6:07 م

عصفورٌ وسجن

المهندس هلال حسن الوحيد *

هناك في مكانٍ ما في العالم شخصٌ يتمنى لك عاماً أجملَ وأَنْ تسودك السكينةُ وأنَّ ما يخفيه العامُ القادمُ أبيضَ من الثلجِ وأَشَعَّ من الشمسِ وألذَّ من الشهد. ذاكَ الشخصُ هو أنا.

كنت أعملُ في الأشهر الماضيةِ في إصلاحِ قطعةٍ صغيرةٍ من الارضِ خربها الانسانُ وأحد الأدواتِ التي لازمتني كان عودُ الكبريت. لم أشعل ناراً في صغري ولم يكن إشعال الحرائق تستهويني قبل هذه المدة. أُشعلُ النار في أي شيءٍ قابلٍ للإشتعال وأبتهج عندما أرى الشعلةَ الصغيرةَ تتموج وتمتد أَلِْسنَةُ اللهبِ في كُلِّ ناحيةٍ وترتفع الحرارة. تلك الدقيقةُ تبعث في نفسي إصراراً على إبقاءِ النارِ متوقدة. أحتارُ هل أنا أشعلُ النارَ أم النارُ تشعلني!

ليس بالضرورةِ ما تضع في جيبك يدل على كنهكَ وحقيقتك ولكن ما تخفيه في نفسك وعقلك يدل على ذلك. دكتور ”لوكس“ كان يدرسنا مادة الديناميكا الحرارية في جامعة تلسا عام 1983م يدخل مسرحَ المحاضراتِ وجيوبه ممتلئةٌ بكل أصنافِ الأدواتِ حتى تظنه عاملَ سباكةٍ أو نجارةٍ أو كهرباء. كان ألمعياً سريعَ الحركةِ ومن يحصل على 40? من الدرجةِ يحصل على الدرجةِ العليا في المادة، لا بد أنه ماتَ أو شيخٌ هرم الآن! أيام انقضت وأتى خريفها. بعد خمسٍ وثلاثينَ سنة أَضفتُ أعوادَ الكبريت إلى ما أحمل في جيبي، وأنا أكتب هذه الكلمات هي معي.

تراودني نفسي وأنا في السوقِ والسيارة والمسجد أن أشعل عود الثقاب. لا يوجد رغبةٌ أكبر من رغبةِ التدمير التي تستيقظُ فجأةَ وربما هي الشعور بالقوة عند من يملك الكبريت أو البارود. لم أكتف بإشعال النار لوحدي وكنت أشركُ أسباطيَ عندما يزورنا. هم يمرحونَ ويجمعونَ الاعوادَ وما تركه الناسُ وأنا أشعلُ الموتَ فيهِ بعودِ الثقاب. لا ينتقل فقط المجدُ بالوراثةِ بل حتى إشعال الحريق ويتنافس الصغارُ أيهم يحملُ شرفَ إيقاظ النار.  

قصدنا المكان أنا وعمار ذي العشر ربيعاً بعينينِ واسعتين ووجهٌ فيه صفرةُ القمر ذاتَ يومٍ ومرت ساعةٌ أضرمنا فيها النارَ فيما وجدنا ولما أخذتُ يَدَهُ قبيل الانصراف نظر إلي نظرةَ محبةٍ وخوفٍ وقال يا أبتِ أعطني أعوادَ الكبريت. أعطيته الاعوادَ ودسها برفقٍ في درج السيارة وقال هاهنا يجب أن تكون.

تهبط الحكمةُ على الصغيرِ من السماءِ ويعرفُ السر الكامنَ وراء اندفاع الكبير في رغبةِ إشعالِ الحرائق ولكن إرادةَ الصغيرِ الواهنة لا تستطيع اقتلاع الشرِّ من الكبيرِ القادر. لا يكتفي الكبير أن يرتكب الخطايا بنفسه بل يجند أخاه وأبناءه ومن يستطيع لِيُرضيَ غرائزهُ وميوله للدمار.

إن رأيتم حريقاً في بيتكم، لا تلوموني ولوموا الصغارْ وإن أردتم أن أَلاَّ أُشْعِلَ النارَ امنعوا من يصنعَ أو يبيعَ أعوادَ الثقاب. إنما أنا آلةٌ تُشْعِلُهَا النارُ كي تهدي الجائعينْ لزادِيَ بين الجبلينْ. ربما حاتمُ والنَّوارُ وماويَّةٌ عادوا في الروابي والهضاب:
أوقدْ، فإن الليلَ ليلٌ قرَ
والرّيحَ، يا مُوقِدُ، رِيحٌ صِرُّ
عَسَى يَرَى نارَكَ مَنْ يَمُرُّ
إنْ جَلَبَتْ ضَيْفاً، فأنْتَ حُرُّ

مستشار أعلى هندسة بترول