آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 4:57 ص

العالم المعاصر والثقافة الواحدة

يوسف مكي * صحيفة الخليج الإماراتية

قبل ربع قرن من هذا التاريخ، قادت قراءاتي الفلسفية والتطور العلمي، إلى متابعة الفراغ الذي أحدثه التطور العلمي على الفلسفة، بسبب التسارع الكبير في المنجزات العلمية، الذي لم يتح للفيلسوف بناء أسس تملك ثباتاً نسبياً، لبناء منظور فلسفي جديد. وقد نشرت رؤيتي عن هذا الموضوع في عدد من الصحف العربية، من بينها صحيفة الخليج.

أثر التطورات العلمية، في جوانبها السلبية، لم يقتصر على علاقة العلم بالفلسفة، بل أسهم في أمور كثيرة، من بينها تضعضع الهويات، التي كانت تضفي على النوع الإنساني، خصباً وثراء، والانتقال من عالم الثقافات المتعددة إلى الثقافة الواحدة، بحيث بات القول مألوفاً، إن العالم كله، تحوّل إلى قرية صغيرة.

في هذا السياق، يشير الفيلسوف الفرنسي إدجار ميلان، حول التطورات الكبيرة التي أحدثتها التطورات العلمية، في كتابه «المنهج والأفكار - مقامها حياتها عاداتها وتنظيمها»، إلى ضرورة التمييز بين عالم الثقافة الإنسانوية، وعالم الثقافة العلمية. إن هناك حالة انفصام، بين الأمرين. هذا الانفصام خلق معارضة، بين مجال الروح والقلب، وبين عالم العقل والتقنية، بحيث أصبحت المعارضة بين الأمرين تخلق نزاعاً، كان في بدايته منتجاً وخلاقاً، لكنه فيما بعد بات مأزوماً، بما أدى إلى خلق صدوع في الوعي الجمعي.

إن هذا الانفصام، مؤداه أن المنظومات الفكرية، تكون مغلقة ومفتوحة، في آن معاً. مغلقة بمعنى أنها تحمي نفسها، ومفتوحة، بمعنى أنها تغذي التأكيدات لصالحها. وهي على نوعين، منظومات يتصدّر فيها الانفتاح قبل الانغلاق، وهو ما ينطبق على النظريات، ونوع آخر، يتصدّر فيه الانغلاق، وتغلب عليه الأيديولوجيات.

ويلاحظ أن هذا الانفصام، يكون أكثر، في المجتمعات التي لم تدخل بقوة في الثورات العلمية، والتي هي في الواقع مستهلكة لها. إن القوي علمياً، يسهم بفعالية، في تذويب العناصر التي تصنع الثقافات المحلية، بالمجتمعات الإنسانية، بما يحقق غلبة المركز على الأطراف.

لقد أدى ذلك، إلى أن لعبت التكنولوجيا أدواراً مهمة في سياسات الإخضاع، وصناعة العقول، وهندسة الإدراك، أدوراً مهمة، ليس فقط في كسر الممانعة الثقافية للبلدان النامية، بل ومن خلال ذلك تتمكن من تحقيق الغلبة الحضارية.

ولا يتردد الغرب، عن استخدام تكنولوجيا الاتصالات المتطورة ومواقع الخدمة الاجتماعية، لبعث الهويات ما قبل التاريخية، متى ما وجد أن ذلك يخدم استراتيجياته في تحقيق الهيمنة، وتأمين مصالحه السياسية والاقتصادية، وحتى العسكرية.

وليس من شك أن وسائل الإعلام الجديدة، قادرة بما تملكه من نفوذ وإمكانات وسلطة تمكنها من تقديم مادتها، في قالب مشوق، عبر تكنولوجيا الإثارة والتشويق والمتعة، على تحقيق اختراقات في ثقافات شعوب العالم الثالث. ومع تغوّل أدوار هذه الميديا، تراجعت أدوار مراكز البحوث والجامعات، ودور النشر والصحف، ومختلف أشكال الأنشطة الثقافية الأخرى.

ولم تتردد الدول الكبرى، عن استغلال التكنولوجيا المتقدمة، كشبكات الحاسب الإلكتروني، ونظم البث عبر الأقمار الصناعية، لكي تتخطى برسائلها الحواجز الوطنية، للدول الأخرى، وتعمل على نشرها على نطاق عالمي، مما يؤكد فعالياتها كإحدى آليات الهيمنة الثقافية.

ويشير هربرت شيلر، إلى أن تدفّق المعلومات يتم في اتجاه واحد، من الدول الغنية للدول الفقيرة، ما يفضح مدى الظلم، والتشويه، الذي تتعرض له قضايا العالم النامي. إن القوة المؤثرة في الوعي، تعد عاملاً حاسماً في تحديد نظرة الجماعة، وطبيعة أهدافها، والمسار الذي تسلكه.

ورغم أن التطور، في التكنولوجيا، أدى إلى تغير أحوال الناس، بما نتج عنه في كثير من الأحيان تحسن أوضاعهم المعيشية، إلا أنه أدى إلى تذويب العناصر الإيجابية، التي خلقت مشاعر ود وعواطف، ونخوة وتحاب بين الناس، وخلقت بديلاً عن ذلك وحدانية، وعزلة بين البشر، كما خلقت هوساً حاداً نحو الاستهلاك، فقد تصاعدت في الأعوام الأخيرة، نسب التسوّق عبر الإنترنت بأرقام هائلة جداً، مما أدى إلى زيادة مطردة في النزعات الاستهلاكية.

لا ينبغي أن تقتصر قراءتنا، للآثار السلبية، للمنتجات الإلكترونية، والتطور في الاتصالات، على تضعضع الهويات وغسل الأدمغة، واعتبارها من أهم وسائل الإخضاع الثقافية. فهناك ما هو أخطر من ذلك بكثير.

في هذا الاتجاه، توضح سوزان غرنيفيد في كتابها «تغير العقل: كيف تترك التقنيات الرقمية بصماتها على أدمغتنا»، أن التطورات العلمية، في المجال الإلكتروني، خلقت عالماً لم يكن له من مثيل في تاريخ البشرية. إن هذا العالم الجديد ثنائي الأبعاد، مؤلف من البصر والصوت فقط، يقدّم معلومات فورية، وهوية متصلة، إنّ من شأن ثنائية الأبعاد هذه، التحريض على النزعة الاستهلاكية، وتعزيز النزعات الفردية، دون إشباع حقيقي. إنه نقيض نظيره الثلاثي الأبعاد، الذي يغذّي حواس الرائحة، والمذاق، واللمس. إن العالم الثنائي الأبعاد، يجعل الفرد مفعماً بالقلق المزعج أو الابتهاج المظفر خلال الاندفاع في دوامة شبكات التواصل الاجتماعي، كما هو بالنسبة للوعي.

لقد خلق التطور الهائل في عالم الإلكترونيات، والهواتف المحمولة، هوساً غير مسبوق. فعلى سبيل المثال، أشارت دراسة خاصة، إلى أن البريطانيين يفحصون هواتفهم الذكية، بعد استيقاظهم مباشرة، وفي كل الحالات، فإنهم جميعاً يفحصون هواتفهم الذكية، قبل مرور خمس عشرة دقيقة من استيقاظهم.