آخر تحديث: 25 / 4 / 2024م - 9:08 م

أعمدةُ الشرق

بقيتُ أشهراً في مدينة النجف في أواخرِ الستينات وكان مقر إقامتنا في بيت أحد السادة من آل الرفيعي. لكي أصل لهذا المنزل خروجاً من الصحن العلوي الشريف لا بد من أرتقيَ عدة درجاتٍ إلى سوقِ الحويش حيث المكتبات الصغيرة على الجانبين ومسجد الهندي الذي يضمُّ قبر السيد محسن الحكيم ومكتبته. على اليسارِ قليلاً شارعُ الإمام الصادق الذي تقعُ في بدايته مكتبة الطالقاني. أستغرب من معرفةِ مالكها الخمسيني على الأقل حينئذٍ مكانَ كلِّ كتابٍ من الكتب الكثيرة التي يبيعها وكم هو لطيفٌ مبرد الهواءِ الصحراوي في مدخلِ المكتبةِ في جوٍّ شديد الجفاف فيكسبه قدراً من الرطوبةِ مما يخففُ الحرارةَ ويحسن جودةَ الهواء.

في مدخل السوقِ عمودٌ خشبي يحمل أسلاكَ الكهرباء المنتشرة بشكلٍ عشوائي وللعمودِ قاعدةٌ اسمنتية أستريحُ عندها كلما تَعبتُ من استكشافِ ما حولي في المكان الجديد والوذُ بظلِّه من حرِّ النجف القاسي بينما يَعجُّ المكان بذوي العمائم السوداء والبيضاء. أفرحُ عندما يأتي ”المعدان“ من الأهوارِ في جنوب العراق للزيارة وفي الغالب يبيتونَ في الشوارع وينافسونني على الاستراحةِ عند العمود. نساءُ المعدان يلبسنَ العباءة السوداء من الصوفِ الخشن وأغلبهنَّ يرسمنَ الوشمَ على وجوههنَّ وأيديهنَّ ويتزينَّ بعصابةٍ على الرأس وكثيراً ما كنت أقتربُ منهنَّ لألامسَ العباءة بيديَ الناعمة وأتعرفَ على مدى خشونتها، وكذلك أكلهم للبطيخ دون تقطيعه ولكن بتفريغه من الداخل، ولربما ناولتني أحداهنَّ قليلاً من المالِ لشراءِ قليلٍ من الثلج فلا أمانع. أنظرُ إلى بائع حلوى الدهينة النجفية والتي اشتهرت بها النجف وهي خليطٌ من الطحين والسكر والدهن الحر والمبروش والهيل بلونها البني، قطعاً صغاراً تحسبها إذا انعكس اللون ذهباً وأصغر قطعة يبيعها بخمسة فلوس وهي كثيرةٌ عند صبي مملق!

توفيت أمي عام 1995م في كربلاء فذهبت خلفها للزيارة ولاستقصاءِ سبب وفاتها وشدني الشوقُ لعمودي والقاعدة الاسمنتية. وجدت نفسي كبرتُ أعواماً وخضتُ تجاربَ جديدة في الحياة ولم يعد يستهويني ما كانَ، ولكن العمودَ بقي ثابتاً لم يتغير. أيقنتُ أن هناك جزأً من العالم يمر عليه التاريخُ والتقدم وهو ثابتٌ لا يتضعضع ومصراً على الاستمرار في التخلف.  أعدت الكرَّةَ في وقت ليس ببعيد ولأطمئن على عمودي من الاندثار وحمدت الله أنني وجدته سالماً معافى، ولكن لم أجد أصحابي المعدان هذه المرة. أتمنى أن يكون الماءُ عادَ إلى أهوارهم التي أصابها الجفاف أو أنهم يسكنونَ المنازلَ بدلاً من الساحات.

الاعمدةُ في العراق بقيت على ما هي عليه لأسبابٍ ليست خافية ولكن أكاد أجزم بأن في كلِّ جزءٍ من الوطن العربي اعمدةً ليست أقلَّ صلابة وعناداً على التغيير والحداثة والتنمية من عمود مدخل سوق الحويش بحيث يمكنها إيقاف لحظاتِ التقدم وارجاعها للخلف في محور الزمن. وتنوع الأعمدة في الشرق يشبه تنوع الورد فهناك أعمدة الجهل والفقر والكراهية والتعصب والتطرف وغيرها التي أتمنى أن تشتركَ أمتي يوماً ما بأجمعها لهدمها، فمن أمتي تطلعُ الشمسُ، والتي على اجتماعِ همومها اقرأ في وجوهها صبابةً من الهمة.

سيأتي الربيعُ بألوانهِ ويقتلعَ الخريفَ، هناكَ نستضيفُ الحبَّ حتى الصباح، هناكَ يُصبحُ المرجُ مخضراً ويمتلئَ الجرنُ بمحصولِ السنابل،

أنا واثقٌ بأنَّ يديَّ ويداكَ إذا اجتمعا ستقتلعَا الشوكَ، ويدُ الربِّ ثالثةٌ تعطينا ما كنا نظنُّهُ امتنعا.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 2
1
أبو علي
[ القطيف ]: 14 / 1 / 2018م - 7:12 ص
أحسنت و أجدت.
2
طاهرة آل سيف
[ صفوى ]: 14 / 1 / 2018م - 10:51 م
جميل جداً أشكرك أستاذ هلال
مستشار أعلى هندسة بترول