آخر تحديث: 25 / 4 / 2024م - 7:06 م

المرسى

وُلدتُ توأماً لشقيقٍ لي لم يعرفه الناسُ لأنه يشبهني إلى حدِّ التطابق فهم يرون كلينا واحداً. أمي وأبي وأخوتي لم يدركوا الفارق. أرضعتهُ أمي كما أرضعتني ورعاه أبي ورباه كما رباني ولعب معه رفقائي وإخوتي كما لعبوا معي، كانوا يظنوننا واحداً. نلبس ذات اللباس ونأكل ذات الزاد ونشرب ذات الشراب ونمارس عينَ الألعاب ونَطربُ لنفس الأصوات ونشتري نفس الأشياء. كنا روحين في جسد وقوةً متحدة.

بدأت مرحلة الافتراقِ منذ سنواتٍ وأخذ الناسُ يلحظوا الفارق الذي لم يدركوا من قبل. يهم بعضنا بالعمل فيثبطهُ الآخر ويريد احدنا أن يأكل فيحذرهُ الآخر، يحب أن يلهو أحدنا فيصرفه الآخر ويرغب أن يسافر أحدنا فيقعدَ الآخر. إن جميع أفعالنا تكاد تكون متضادة.

تصل رغباتُ الجسدِ وجموحهُ ذروتها وتهبطُ مع مرورِ الأيامِ وتبقى الروحُ تدافع عن بقائها وخلودها في الدنيا بقوةٍ، تعتذرُ عن الظهورِ تارةً وتظهر للعيانِ أخرى. تعيش أرواحنا في بدلتها الجسدية متى ما استطاعت لا ضيرَ من جاء قبل الآخر وإن عز عليها البقاء فيه ابتدعت أساليبَ أخرى. يجاهد الجسدُ والروحُ أن يَنتظما وَيبلغا المرحلة العليا من البقاء والخلود وفي هذه الرغبة يمثل الجسدُ جراباً للروحِ الحادة الذي يفنى وهو يجاهد في بقائها. تظهر أرواحنا في طلب الكمال وحب الجمال والمجد ومقاومة هبوط القوى وحسن الاختيار وتختفي وتنحط في الكره والبغض والاستسلام وكل الآثام والإجرام والشرور وسوء الاختيار.

تتناغم الروح والجسد كما يتناغم المرسى والسفينة. تلجأ الروحُ ”السفينة“ للمرسى عندما تشتد الريح ويشكل لها الساحل ومنبع الأمان. تبحر السفينة في فضاء الكون والمحيطاتِ في مراحل الصبا والكهولة ومتى لم تستطع العودة في مراحل الشيخوخة تبقى في رحلةٍ أبدية تتصل بمرساها من أماكنَ خبيئة. إن أول خطايانا البشرية كانت فكرة البقاء اللامتناهي في حالتنا المادية  ﴿فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْك لاَ يَبْلَى لكننا عندما نيأس من عودة السفينة لمرساها بأمانٍ نرفع عقيرتنا نطالبُ بدمارِ الروحِ والجسدِ معاً ﴿يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ.

نحن البشر لا نجمع الأموال وننجب الأولاد لأننا نحب أن نربي صغاراً أو نظهر بالمظهر الجيد. جسدنا يعرف أنه يهبط  واديَ الضعفِ يوماً ما لكن روحنا تنظر أنها تخلد في المالِ والأولادِ وما وهبنا من روحنا لغيرنا. ليس كل من يكتب أو ينصح سوي الأنبياء يرغب في هداية البشر بل هو يرى خلوده وبقائه في بلاغةِ الجملِ التي يكتبها والمواعظ التي يصنعها ولولا ذلك توقفت يداهُ عن الكتابة واحتجب فكرهُ عن الظهور.

إن نزوعَ الروحِ والجسدِ نحو الخلود هو ِسرٌّ من أسرار الفطرة ولكن يتوجب علينا معرفةُ خطوطهِ وحدودهِ والسعي لجذبه نحونا وتحرير أنفسنا من أعباء إمكان حصوله في الجسد المادي الضعيف المسكين دون أن تحررهُ الروحُ من المادةِ وترفعه في جبالِ المجد.

مستشار أعلى هندسة بترول