آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 2:48 ص

خطوات

كان الإنسان قبل حقبة التقنية المعاصرة  يمشي ولا يستطيع عد خطواته أما في عصرها فهو يستطيع عد خطواته ولكن لا يستطيع المشي خطواتٍ دونها. مع هذا التراخي في مشي الإنسان في مناكب الارض فهو يمشي آلافِ الخطواتِ كل يوم. من يصل الستين من العمر ربما قد يكون مشى عشراتِ المرات من مكانِ عيشه إلى أبعد نقطة في الكرة الأرضية.

بين خطواتنا العديدة مسافاتِ إلزامٍ لا بد أن نمشيها محددةَ الاتجاهات ومسافاتِ اختيارٍ، نحن البشر نرسم الطريق الذي نمشي فيه، لكن مسافاتِ الاختيار تفوق مسافاتِ الإلزام حتى تكاد تكون نسبة الشيء الكثير إلى لا شيء. يمشي العظماءُ في هذه الخطوات مسافاتٍ تفوق الآخرين كأنما كل خطواتهم حرةً وتحسب أنهم يطيرون بأجنحةٍ نحو ما رسموا لأنفسهم من أهدافٍ وهم في ذاتهم يمشون نحو الشمس أو القمر بعداً، بينما يعجز الباقونَ عن الابتعاد عن مغرسهمْ وهم في ذاتهم يؤمنونَ بتحقيق إرادة الرب من ملءِ الفاصلة الزمنية بين الحياة والموت بالفراغ.

عطاءُ العظماء جعل حياةَ الإنسان أقربَ إلى الجنة في طبيعة انتقال البشر من شظف العيش تحت ثقل المكان والطعام والدواء والتواصل والتجارة إلى رغدهِ وأعانه على البقاء على وجه الأرض مدةً أطولَ ليخطوَ خطواتٍ أكثر. هم من فلسفوا قدرة الرب في الكم والفيزياء فيما هو أصغر وأكبر من الذرة ليظهروا دون عنادٍ عظمة الخالق.

شجع الفكرُ الصناعي على الإبداع لكنه خلق تقنياتٍ غرست في الانسان العادي رغبة عدم المشي نحو أهدافه وكتابة أفكاره واستخدام عقله في ناتجٍ حسابي بسيط ونجح في إعادتنا أطفالاً نلهو بمنتجاته وفقدنا أدوارنا وأعمالنا بوجود الآلات الذكية، وهي في هدوءٍ أحالت منتجات العظماء إلى آلاتِ جني الثروات وقتل الشعوب وتدمير ما أنجزته في عمرها المديد.

لن يستطيع كل الناسِ السير مسافات العظماء ولكن بين الولادة والممات مدنٌ ومحطاتٌ يمكن المشيُ نحوها والابتعاد عن نقطة الخروج من رحمِ الأم ولو خطوات. نسير في أزقة الحياة نقطع فيها مسافاتٍ فكرية وحضارية وفي كثيرٍ من أعمارنا نتيه مثل العميان نصطدمُ بحواجزَ وموانعَ نقف عندها بينما أعطانا الربُ الخيارَ في تغيير مساراتنا لنصل إلى هدفه الأعلى في تكامل الكون في ذاتنا.

بخطانا وقدرتنا التي يهبها الله تعالى لنا وتصلنا باستمرارٍ غير منقطعٍ  وحريّةِ إرادتنا التي هي من فيضه نواصل مسيرتنا نحو معرفة أسرار الكون وإبداعات الخالق عبر المخلوقين. لا يتميز جسد المبدع والمفكر وطول خطوته أو قصرها عن غيره من البشر سوى أنه أتعب جسده فاستجاب له عقله. كما أنه ليس علينا التسليم للآلة لتقوم بدور الجمالِ في كمال المخلوقاتِ والذي يتمثل في استخدامها عقولها.

في كل حركات البشرية نحو التقدم تركت خطاياها آثارَ أقدامٍ سوداء. لستُ أدري لو كان من الأجدى أن بقي الانسانُ يعيش في العصر الحجري أو ما قبل التاريخ ولم يصنع في إبداعاته أدواتِ الحربِ الفتاكة التي أثبتت قدرتها في قتل البشرِ وهدم الحجر ولكنه الإنسان المجنون لابد له من الدخولِ في نزاعاتٍ مع كل الحياة حتى لو لم يملك سوى الحجر لا رادعَ ولا مانعْ.

هل يأتي يومٌ تحاسب التقنيةُ والابداعاتُ نفسها وتسأل ماذا جَلَبَتْ للإنسان وتتوقف عن قتل من خلقها؟ ربما تكون أكثرَ ذكاءً ورحمةً بالإنسانِ من نفسه الذي يبدو عاجزاً عن الحد من بحار طغيانه. الجواب لا، لن تتوقف، ما دام الانسانُ الذي خلقها يحفرُ قبراً غير قبره ويَلحَد فيهِ شخصاً غير ذاته...

مستشار أعلى هندسة بترول