آخر تحديث: 20 / 4 / 2024م - 1:42 ص

واقعنا والأجهزة الذكية

عبدالله الحجي *

تمكنت الأجهزة الذكية من احتلال مكانة مرموقة في حياتنا لم ينالها أقرب المقربين وأعز الأعزاء. لقد أوشكت أن تسحب البساط من الكتاب لتأخذ المقولة المشهورة «وخير جليس في الزمان كتاب» لما تستهلكه من ساعات عديدة في كل يوم - ربما تصل إلى ثلث ساعات اليوم أو أكثر - معظمها هدرا وإضاعة وقت تنقلا من برنامج إلى آخر من برامج السوشيال ميديا «واتس اب، تويتر، فيس بوك، سناب شات، لينكد إن، ايميل، وبرامج الألعاب وغيرها. تنقل بحثا عن الرسائل القصيرة الخالية من الهدف والمضمون، بحثا عن التراشق والجدال، بحثا عن زيادة المتابعين، بحثا عن أكبر عدد من «اللايك» ولايخلو الأمر من متابعة كل ماينشر لتزويد الآخرين باللايك لضمان مرورهم واللايك منهم، بحثا عن ريتويت، بحثا عن إعلان ودعاية، بحثا عن أي شئ يملأ وقت الفراغ غير المستغل جيدا، بحثا عن السعادة والهروب من الملل والطفش.

أصبح الجوال لايفارقنا في المسجد والعمل والاجتماعات العائلية ودورات المياه «أعزكم الله» وفي كل مكان. في قاعة الاجتماعات من يدير الاجتماع يضع جواله أمامه وعندما تأتيه مكالمة لايعبأ بمن حوله على الطاولة، يقطع الاجتماع ويجيب على المتصل أحيانا بدون اعتذار مبررا بأن المتصل رئيسه أو رئيسته التي في البيت ولايمكن التجاهل، وأحيانا يترك الاجتماع ويخرج لبضع دقائق لينهي مكالمته.

في نفس القاعة المجتمعون حول الطاولة كل واضع جواله أمامه على الطاولة يتجنب وضعه على الصامت لكي لاتفوته رسالة مهمة، وبين الفينة والأخرى يأخذ جواله ليتصفح بعض الرسائل، وحين يأتيه اتصال فعذره معه متخذا قائده قدوة له ليجيب على مايرده من اتصالات معتبرا ذلك مبررا خصوصا إذا كان الاجتماع مملا ويناقش ماليس له صلة به.

في المنزل يجلس الوالدان والأبناء قد احتل كل منهم ركنا من أركان المنزل معتكفا على جواله، ولا يستبعد أن يكون التحادث بينهم بالرسائل وهم أمام بعض. يقول أحد الأشخاص كنت جالسا مع العائلة وكل منشغل بجواله فوردتني رسالة من إبني الجالس أمامي ”غدا سأذهب إلى الدمام مع أصدقائي“!!. والأمر ليس مقتصرا بالكبار بل أحيانا يشتاق الأطفال إلى بعضهم ولكن ماهي إلا دقائق حتى يتركوا الألعاب التي تنمي مهاراتهم وعقولهم، ويعتكفوا على أجهزتهم الذكية ويحلقوا في عالم آخر لايشعرون بما يجري من حولهم.

وفي المسجد يتردد البعض من أن يضع جواله على الصامت تحسبا لأي مكالمة تتعطل شؤون حياته إذا لم يرد عليها مباشرة، ولايبالي بأن يفتح الجوال مكبرا ليعلم المتصل بأنه مشغول بصلاته ووقوفه أمام ربه. وبعد الصلاة لابد من تصفح برامج التواصل الاجتماعي على السريع ليعرف آخر المستجدات في العالم الخارجي. ولكي لايساء الظن فالبعض يستخدمها لقراءة القرآن أو الأدعية.

وفي المطعم أو المحافل مع الأهل أو الأصدقاء للاستمتاع بأجمل الأوقات بعيدا عن الرتابة والروتين يستحيل أن يفارق الجوال اليدين ويتحرر من انحناء الرقاب والرؤوس عليه حتى تصل الأطباق برائحتها الشهية لتشد الحواس وتثير اللعاب وتريح الجوالات.. مهلا.. لم ينته دور الجوالات ولابد من لقطات على السناب شات وبعض التعليقات المثيرة لنبثها عبر الأثير لنعلم كل الناس بمكاننا وطعامنا ونشوقهم ونحمسهم ونترك باقي التدابير عليهم وعلى رب الأسرة.

ودورة المياه أصبحنا نهيؤها لتكون كما تعرف ببيت الراحة ولابد من الدخول إليها بالجوال لمتابعة أخبار العالم الخارجي ولمشاهدة المسلسلات والأفلام التي لاتحلو إلا فيها ولا مانع من مكث أطول وقت ممكن فالوقت قد استثمر استثمارا جيدا من وجهة نظر المستخدم!!!

وفي السيارة لاتحلو مكالماتنا إلا فيها لنظرتنا بأنه وقت ميت ويمكن استثماره بإجراء بعض المكالمات والرد على بعض الرسائل متناسين مانحن فيه من الخطر الذي قد يحل بنا في لمحة بصر ونفقد أرواحنا أو نرقد بإعاقة على الأسرة البيضاء.

وفي آخر ساعة من الليل نودع بالجوال، وأول ساعة من النهار نفتتح بالجوال. فهل بقي وقت من أوقاتنا حقق انتصارا على الأجهزة الذكية وتحرر من شباكها وقبضتها؟! ربما يكون وقت النوم والراحة فقط إذا سلم الذهن من التفكير به ومن محتواه ولم تأخذه الأحلام بلعبة اللودو التي شغلت الفكر والعباد وهدرت الكثير من أوقاتهم وساهمت في خراب البيوت.

الأجهزة الذكية ذات فوائد جماء وهناك من يحسن استخدامها ويدير وقته ليتحكم فيها - لا أن تتحكم هي فيه - وتهدر وقته بماليس فيه مصلحة ولامنفعة. من أساء استخدامها وجعلها تكبله وتملكه وتجعله عبدا لها قد سلم لها وقته الثمين لتعبث فيه كيفما شاءت، وحرم نفسه من التواصل الفاعل وبناء العلاقات الجيدة مع عائلته ومجتمعه، وحرم نفسه من الثقافة والقراءة والاطلاع، ومن التفكر والتدبر والتأمل والابداع والابتكار بسبب انشغال فكره المستمر وعدم المبالاة بالتركيز في الأمور الأخرى.

لقد التفت البعض لمخاطر الأجهزة الذكية عليه وعلى أسرته وبدأ بوضع بعض الضوابط والتعليمات التي تحد وترشد من استخدامها. فمن بعض الأفكار التي بدأ البعض في تطبيقها، جمع الجوالات في صندوق أثناء اللقاءات العائلية، وتحديد أوقات محددة لاستخدامها، تركها في السيارة عند الذهاب إلى المسجد ليقطع اتصاله بالعباد ويتصل برب العباد، وضعها في صندوق السيارة الخلفي أثناء القيادة لكي لاتشغله عن القيادة، ومنهم من خصص أوقاتا محددة خلال اليوم ليتواصل اجتماعيا عبر وسائل التواصل الاجتماعي بدلا من أن يتركها مفتوحة شاغلة باله طوال اليوم يتفاعل مباشرة مع كل رسالة تصل إليه وكل نغمة منبهة.

كل منا يدرك خطرها، والتحرر منها كليا شبه مستحيل إلا ماشاء الله. ولكن الترشيد وحسن إدارة الوقت هو قرار يمكن أن يتخذه الكثير بوضع خطة وقياس الوقت المهدور ومدى الاستفادة منه خلال فترة زمنية إذا ماتوفرت لديهم القناعة والإرادة والعزيمة.