آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 11:39 م

الرغبات شقاء لاينتهي

ورد عن أمير المؤمنين : ”الرغبة مفتاح التعب“ «تحف العقول ص 77».

يشير أمير المؤمنين إلى أهمية السلامة النفسية، والبعد عن المؤثرات والمنغصات التي تسلب راحة البال والهناء، فعندما تشتعل في النفس ذروة البحث عما لا نهاية له أو الطموح والأهداف ذي السقوف العالية، تنساب عليها علائم الإرهاق والقلق الدائم من فوات الحظوظ أو تعثرها في مرحلة ما، مما يبقي عيني القلب مفتوحتين لا تنعمان بمحطة هدوء أبدا.

نظرة الإنسان لتكوين عالمه الخاص المتسم بالقوة والعظمة والتكامل المستمر، تجعله في حالة لهث مستمر عن اللبنات القادمة لبنائه المتعالي، وهي نظرة إيجابية لو كانت للاستظلال بالسعادة والتكامل البنيوي المتعدد للشخصية من الجهة الثقافية والاقتصادية والاجتماعية، ولكنها في حالة الرغبة الجامحة والأمنيات التي لا تتوقف تتحول إلى مصدر تعب وشقاء يسلب منه ما كان يهدف له يوما ما.

إذ تنغرز في دواخله الرغبات المتتالية وإن لم يكن بحاجة لها، تماما كإشباع غرائزه إن انساق خلفها دون توقف سترتد عليه بالخراب والدمار والنتائج العكسية، فإن روح الكفاف والقناعة يستجلب الهناء والاستقرار النفسي في كل الأحوال، وحتى في حالة شظف العيش أو المرور بأزمات ومحن لا يملك لها حلولا متكاملة، فإن تكيفه مع الألم والمشقة سيكون مصدر راحة له، بينما تخطي خطوط الحاجة يحول الإنسان إلى أسر وذلة الرغبات التي لا تنتهي، فكم من إنسان غرق في وحل الماديات وأضحت نظرته لكل الأمور لا تخرج عن إطار المصالح والمنافع، فسلبت منه إنسانيته ونظرته الأخلاقية الرائعة والتي تزينها حب الخير للآخرين والترفع عن التكبر والحسد والأحقاد، وأصبح المال والجاه هو أقصى ما يتمنى، ولا يكتفي بأي مستوى يصل إليه بل يطلب المزيد والمزيد ولو كان ذلك على حساب صحته وعلاقته بأسرته، إذ يحصر وقته بالتحصيل المادي!!

لكم تشقى النفس ويضنيها تلك الرحلة الشاقة والمرهقة في البحث واللهث خلف رغبات لا تتوقف، فمن أجلها يتحول إلى كائن آخر قد تنازل عن كرامته ومبادئه، فمشوار التنازل والانحطاط يبدأ باتخاذ وسائل المكر والخداع طريقا في التعامل مع الآخرين، ويرتهن للتلون والتزلف لمن تكون رغبته ومنفعته عنده، فما أقبح تلك الصورة التي يرسمها لانحلاله القيمي حتى وقع في براثن الرغبات المذلة والساحقة لكرامته، حتى يسقط من عيون المحتقرين له.

وهل لمسيرته المتردية من محطة يتوقف عنها وتهدأ أنفاسه المتلاحقة، فيعلن ظفره النهائي بما يرغب به؟

لا وألف لا، فما إن تتحقق له نزوة ورغبة معينة حتى يبدأ في ملاحقة أخرى، كعطشان يتروى من ماء البحر فلا يزيده إلا عطشا، وتبدأ خطاه في التحرك مجددا لصيد يعتقد أنه يستحقه ولا يستغني عنه.

والقلق النفسي والهواجس الدائمة والتخوف من ماضي يفقده ومستقبل لا يظفر فيه بشيء، منشأ ذلك الرعب المفزع لنفسه هو من ضياع الفرص وتسرب الحظوظ وبقائه على أرض بلقع لا نصيب له بها، ولا يكتشف ضياعه وخسارته الكبرى إلا لما يستشعر نظرة الآخرين له وقد خسر تاج عزته وشأنيته، بوقوعه في أغلال الرغبات التي شغلته عن علاقته بربه وبأهله وبتكوين معالم شخصيته الأخلاقية والمعرفية، فكانت رغباته نقاط ضعفه ومكاشف سوأته ومعريات نفسه من معالي ومزينات المرء من فضائل ترفع مكانته، ولا أسف وقد تحول إلى مطية يقوده الناس من أصحاب المصالح من زمام رغباته المذلة، فيقنع بالاتجاه والمسير إلى حيث يأخذونه ويستحثونه الخطى دون ممانعة أو إباء.