آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 5:41 م

ذهنية الفرض والوصاية

جعفر الشايب * صحيفة اليوم

من الصعوبة بمكان على أي فرد أن يعيش متناقضًا مع قناعاته أو غير منسجم معها، ومن الطبيعي أن يحاول التمرد والعودة للحالة الطبيعية التي ينسجم فيها مع ذاته ويعيش تصالحًا ذاتيًا، تنعكس قناعاته التي يؤمن بها على كل سلوكياته وتصرفاته. نلحظ وجود هذه الظاهرة الاجتماعية في قضايا وأوجه متعددة، يضطر فيها الفرد لإخفاء كم كبير من قناعاته وآرائه الفكرية ويحاول أن يعبر بأسلوب قد لا يعكس بالدقة ما هو مقتنع به، والحال نفسه يتمظهر في أحوال متعددة تصل إلى الملبس والمأكل ومختلف السلوكيات العامة التي تتماشى مع رغبة المتلقين وليس قناعة الفرد.

تولّد هذه الحالة ازدواجية تصل لدرجة التناقض أحيانا بين ما يريده الفرد وبين ما يفرضه الجمع عليه، وتخلق صورتين مختلفتين وتتحول تدريجيًا إلى نموذج حياة متأرجح، يؤدي بكل تأكيد إلى صعوبة في التواصل والفهم الواضح والدقيق لمقاصد الحديث والتعبير والسلوكيات. كما ينتج عنها عالمان مختلفان، عالم العموم الذي يعرض فيه الناس آراءهم المتوافقة غالبًا والمتطابقة أحيانا، وعالم آخر خاص يعبرون فيه عن مواقفهم الحقيقية. الأمثلة في هذا المجال عديدة وكثيرة لا داعي لسردها، يكفي أن البعض مثلًا لا يريد أن يصرح بنوع المرض الذي يصيبه حذرًا من نظرة المجتمع له، مع أنه أمر طبيعي وليس من إرادته.

السؤال هو، لماذا يعيش معظم أفراد مجتمعاتنا هذا التعارض بين العالمين، ولماذا لا يكون هناك عالم واحد يعيشه كل منا بإمكانه فيه التعبير عن قناعاته وآرائه ومواقفه وممارسة سلوكياته ضمن الإطار العام؟ وبمعنى آخر، كيف نردم هذه الهوة الواسعة بين السلوك الذاتي الخاص وبين الحياة العامة بحيث يحدث بينهما توافق وانسجام؟

في اعتقادي أن ذهنية الوصاية التي يقوم بها البعض ويمارسونها، تنظر إلى أفراد المجتمع على أنهم قصّر يحتاجون دوما إلى توجيه وإرشاد، وإلى فرض سلوكيات وأنماط معيشية معيّنة عليهم كي يلتزموا بها ولا يخرجوا عنها. ويمتد هذا الإجراء إلى مختلف أشكال ومجالات الحياة بحيث تؤطر سلوكيات الإنسان ضمن منظومة محددة ومضبوطة، يعتبر الخروج منها أو عليها أمرًا منكرًا وتجاوزًا للأعراف والتقاليد.

إن النتيجة الطبيعية لقيام واستمرار هذه الحالة غير الطبيعية، إما الانفلات منها والتمرد عليها بصور وأشكال مختلفة، وهو أمر له من المخاطر الاجتماعية الكبيرة التي تترتب عليه، وإما العيش ضمن منظومتها وبيئتها التي تؤدي بالتالي إلى المزيد من التناقض وإلى تغييب أي مبادرة إبداعية وبروز لطاقات الأفراد.

عندما يتحرر الإنسان من القيود والأغلال المفروضة عليه قسرًا، والتي لا تمس بطبيعة الحال النظام العام، بل هي نماذج متنوعة وتعبيرات متعددة تعكس تنوع وتعدد الأذواق والآراء، عندما يحصل ذلك فإن انسجامًا وتوافقًا داخليًا يزرع بديلًا عن التعارض والتناقض الناتج عنها. كما يمارس الفرد حياته وإبداعاته الأساسية وعطاءه دون الالتفات إلى الجزئيات الظاهرية، وتكون المنافسة بين من يقدم أفضل ومن يعطي أكثر وليس بين من يكون أكثر التزامًا ظاهريًا بالمظاهر العامة.