آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 12:12 م

أماني الكبار

يأتي المرءُ للحياةِ في لفافةٍ ينظر إلى أمه وليس له إلا ما أعطته من الطعامِ والشرابِ والفراش. لكن لو تنحى العالمُ ما تنحت هي وأبوه عن حبه ووهبهِ الحياة. يرونَ فيه المسرات والملذات أن يكبرَ ويصبَّ لهمَا الحياةَ في فنجان. يشب هذا الضعيف ويخضر عوده، لا يحتاج غداءَ أو كساءَ أمه. أكثرهم يقول شكراً ومنهم من يعتكف في صومعةِ حياته، أما هما تقترب نارُ الوحدةِ من أطرافهمَا دون أن يشعرَ بها الشابُ اليانع. أحاسيسٌ لا يعرفها إلا من طافت به وطاف بها.

لكلِّ شيءٍ ذروةٌ في الحياة تصل مداها ثم تتسافل ومنها نحن البشر في قوانا ومشاعرنا. نصل حَدَّ الطغيانِ في القوة والغنى وخشونة المشاعر وحين يغزونا الضعفُ لا يفتك بقوانا فحسب ولكننا نعودُ في أحاسيسنا ومشاعرنا إلى الساعةِ التي كنا ملفوفين في الخرقة. نعود مثل الطفلِ الذي يطلب الحنان ويكره الصدودَ والوحدة. يبكي إن تركته أمهُ ولو بجانبها دون أن تناغيه وتقول له مترنمةً أنا بجانبك.

ليس أحبَّ للوالدينِ من أن ينظرا نسورهمْ تحلقُ في ذرى الحياةِ إلا أن ترف بجناحينها عندما تمر من فوق رُباهما وتقول هذا أنا.  ربما تجد نفسك وقد ارتقيتَ درجاتِ العمر ولم تكتب في ديوانِ ذاكرتك حرفاً عن أحدهما ولو تيقنتَ يوماً أنهما يرحلانِ صحبتهما وكتبتَ ما يملأ الكتب.  لم تسعفهمَا الحياةُ أن يكونا نجماً ولم تحملِ الصحفُ صورتهما أو اسمهما ولكنهما بلغا العلا بك.

بنيَّ لو زالت نضارةُ وجه أبيك وأمك لم يزل قلبهما ناظراً اليك. عندما تكتب أرقَّ الكلمات لصديق أو تحنو على أبنائك تذكر أن طفلينِ في ثيابِ الكبار يريدانِ الإصغاءَ إلى صوتك وترديد أولى الكلماتِ التي علماكَ إياها، بابا وماما.

بنيَّ: إن وهبت لك الحياةُ حياةً في طفلٍ تذكر أن الحياةَ تُداينكَ وما تعطيه لهما اليوم تأخذه في الغد. سوف تشرب من ذاتِ الشرابِ الذي تسقيه إياهما فاحرص أن تتجسد مشاعركَ وأفعالك رحيقاً لا خَلَّاً.

بنيَّ: أَعِنْ ابنكَ على برك. لك كل السلامة ولكن لم تستثني الحياةُ أحداً قبلك أو بعدك ﴿وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ ۖ أَفَلَا يَعْقِلُونَ، عندما تكبر وتصبح عيناكَ ناعستانِ دون أن تنمام وساقاكَ تهزهما نسمةُ الربيعِ تحتاج ذاك البر. حينَ يكون من أعاظمِ الرجال يقول هكذا كان أبي.

لن يطلبا منكَ إنْ هَجَرَ عينيهما الكرى أن توسدهما ذراعيكَ وتقرأَ لهما حتى يناما ولن يطلبَا أن تعرى ليلبسا أو تجوعَ ليشبعا ولكنهما يودانِ إِن طافت بهما ليلاً أشباحُ الوحدةِ أن تضيءَ لهما تمثالاً للحياةِ يريا فيه أنَّ ما انفصل منهما لم يكن عدماً أو لا شيء. لا تهتم كثيراً لما توصيكَ به حداثةُ الإستهلاك فليس لزاماً أن تفيض عليهما من زينة أو يكونَ لهما عيداً ولكن عليك أن تسمع لمن قال ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا.

بنيَّ: عش أحلامك وأمانيك وتذكر أن أحلامَ وأماني الشيخ والشيخة كانت فيك.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 2
1
حسين سويد
[ القطيف ]: 29 / 3 / 2018م - 4:09 م
جميل
أثابكم الله
2
طاهرة آل سيف
[ صفوى ]: 31 / 3 / 2018م - 11:05 م
عميق وجميل وحكيم ماتكتب أدام الله هذا القلم.
مستشار أعلى هندسة بترول