آخر تحديث: 23 / 4 / 2024م - 6:39 م

الوراق

هل أهديتَ لصغيركِ كتاباً يتعرف فيه على القراءةِ وجنونَ وسرَّ لذتها؟ إن استطعتَ أن تدس له واحداً في زحمةِ الهدايا ومغرياتِ التسليةِ سوف يشكرك في خفايا نفسه عندما يكبر.

تعرفتُ على الكتابِ قبلَ العاشرة بعد ما استطعتُ فك رموز الأبجدية ولأنَّ أخي كان خطيباً يحضر مجلسهُ أصدقاءهُ كان من واجبي خدمتهم والقراءة لهم والمساعدة في حفظِ القصائد والابياتِ الشعرية لمن لم يستطع. كانت بعض جلساتهم تمتد حتى الصباح ولا تخلو من نودارَ يفتعلها  الصبيُّ في العاشرة.

كان اقتناء الكتبِ يعد مهنةً صعبةً في الستينات والسبعينات من القرن الماضي لعدم توفرها في المكتبات المحلية مقدمةَ تعارفٍ بين الصغير والحب والدين والموت والحياة وأشدها متعةَ افتعالُ حقيقةٍ من القصصِ الخيالية وحب الاستطلاع والاستكشاف في كل جوانب الحياة. عندما قرأتُ البطولة كان السيفُ حاضراً أو قصص الحبِّ كان خيالي يستحضر شكل حبيبتي عندما أكبر وما يطوف بين العاشقينَ والمتخاصمينَ وبيئتهم وكيف عاشوا وماتوا.

لم تكن كل الكتب مزخرفةً باسمها من الخارج والطباعة تكاد لا تخلو من أخطاء وكان عندي مهمتان عندما يحط الكتابُ الجديد وهما التوريق واختيار مكانٍ له بين إخوته على الرفوف الخشبية. كان الوراق الصغير يستطلع السرَّ الذي يخفيه الكتاب عند التوريق في معرفة مافيه من موضوعاتٍ وهل فيه ما يستدعي إعادته لصاحبه أو استبداله إن كان فيه عيوبٌ مطبعية كبيرة. إن أعجبني ما فيه وضعته بين الكتبِ التي لا أحتاج لارتقاء سلمٍ لتناولها. وكذلك معرفة الشكل والأسم بدقة لاستحضارهِ عندما يطلبه الخطباءُ وإلا كان هناك مخالفةً تستدعي تصحيح سلوك الصغير لا يستطيع تحملها.

سَالَ حبُّ المعرفةِ إلى الواقع وكنت الأوسطَ الذي يجلب حاجاتِ الضيوف والمنزل. لا هاتف حينها ولم تكن تدري متى يحطَّ ضيفٌ عند الغداء فلابد من تزيين المائدة. يبعد دكانُ الفاكهاني حوالي الألفَ متر وفي كل خطوةٍ يكون ما يلفت انتباهَ الصغير ويستدعي استكشاف ما في الحوانيتِ والوجوه وما يتكرر منظره كُلَّ يوم. رحلةُ دقائقٍ تصل مدتها إلى ساعة ولكنها تستاهل العقابَ البسيط الذي يليها.

قد يغوي صغيركَ الكتاب ولكن الجهلَ وقلةُ المعرفة تغويه أكثر. لم تكمل رحلتي مع الكتابِ الكبير واخترت رحلتي مع كتبٍ صغيرة ولكن بقيت جذوةُ لهبِ العلاقة مضطرمةً تنادي ”أيها الصغير، أيها الصغير“ في المعرفة عد إلى كتابك. تكمن أشباحُ الخطر في الجهل الذي يستحكمُ فينا ويهدمُ عروش معرفتنا منذ الصغر. صَدَأُ السيفِ يعني انتفاءَ الحاجةِ إليه وغبارُ الكتاب يعني موتَ الأمة في ساحاتِ المعرفة وفي ساحات القتال والحرب. عندما نترك الكتابَ لا يوجد في طاسةِ رأسنا سوى حفرةً يملؤها الفراغ!

كان الشيطانُ يغري الصغيرَ في نوادر الكتاب ومنها أن حضر المجلسَ صديقٌ مكفوف البصر وصببت له الشايَ الحار الذي كان عليه أن يرشف منه ويعرف كم بقي في الكأس في المرة التالية لكنه لم يرى أنه كلما وضع الكأسَ ملأتهُ الشايَ الحار الذي لم يكد ينتهي. تنبهَ صديقي الكبير بعد حرق لهاته واستدعى تحرير مخالفةٍ للصغير.

ضجيجُ أصداءِ المستقبل يناديكَ أن تبنيَ لصغاركَ بيتاً وتدخر لهم الملايين وتزيدهم أمناً. إن استطعت افعل، ولا تنسى أن تبني بيتاً من الحكمة في رأسهم لا تهدمه العواصف ولا يرتعش عند أول هزةٍ في الحياة.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
طاهرة آل سيف
[ صفوى ]: 14 / 4 / 2018م - 11:21 م
سنين من الحكمة في قصص من العمر يختزلها قلم في كلمات تسافر بالقاريء أينما شاء كاتبها ، كل التوفيق ومزيداً من العطاء .
مستشار أعلى هندسة بترول