آخر تحديث: 23 / 4 / 2024م - 3:44 م

سردية الموروث والتوظيف الجمالي

محمد الحرز * صحيفة اليوم

انتهينا في المقالة السابقة إلى التساؤل عن قدرة الفرد بالأحساء في تجاوز سلطة المرويات الشعبية التي تربى عليها إذا ما أراد أن يكتب نصا إبداعيا «شعريا أو روائيا أو قصصيا»، حيث معنى التجاوز هنا لا يعني الإلغاء أو التخلي طواعية - هذا ضرب بعيد عن الاحتمال، لأن ترسبات الموروث تبقى تعمل عملها في عمق شخصية الفرد مهما حاول التخلص أو نكران تأثيرها عليه -، وإنما يعنى التوظيف الجمالي بالقدر الذي يسمح فيه بالقول أن سردية هذه المروية أو تلك عند هذا المبدع أو ذاك لها دلالة مختلفة عما هو متعارف عليه في الموروث بشكل عام، وهذا مؤشر على أن المبدع يريد أن يقول شيئا وفق شروط وعيه الذاتي بالكتابة وبالموروث والماضي، وليس بشروط الموروث نفسه؛ لأن هذا الأخير شرطه هو الحفاظ على شكل ومضمون المروية دون المساس بدلالاتها، حيث على المبدع هنا مهمة النقل فقط مع توظيف قدراته الجسدية والكتابية في التأثير على المتلقي قدر الإمكان.

لذلك، نحن أمام مسارين في توظيف الموروث.. أولا: توظيف جمالي، والآخر توظيف لأجل النقل والتكرار فقط، وسندلل فقط على بعض الأمثلة في المسار الأول، وذلك في المجال القصصي عند بعض مبدعي السرد من شباب الأحساء. يستحضر القاص أحمد العليو حكاية السعلوة في قصة بهذا العنوان بينما يستحضر القاص طاهر الزارعي في قصته «زبد وثمة أقفال معلقة» سردية الأماكن، وعلى خلفية هذا الاستحضار تقدم قصة الأول فتى يحمل على كتفه مذياعا مغطى بقماش أبيض لئلا يراه المارة وهو ذاهب إلى بيته حيث والده ينتظره لأن الاستماع إلى المذياع عندهم ومن ضمنهم جده خطيئة كبرى، ناهيك عن الاستماع لأغاني حضيري بوعزيز من خلاله. الفتى يقطع دروب الحارة في هدأة الليل وشبح السعلوة يسيطر على تفكيره حينما يمر بأحد البيوت وتتجسد أمامه كامرأة حقيقية، فبعدما كانت حكاية السعلوة من اختصاص الأمهات والجدات تروى للأبناء لأجل إخضاعهم للنوم آخر الليل والسيطرة عليهم، أصبحت هنا في القصة مجرد خوف يتلبس الفتى. لكنه سرعان ما سيزول عنه عندما يفكر الفتى بالسبب الذي يجعله يخرج في هذا الوقت، إنه غناء حضيري بوعزيز الذي يجعل من شبح السعلوة لا يؤذيه. وهنا قلب للدلالة فبدلا ما تفرض عليه حكاية السعلوة النوم كما هو متعارف عليه، هو يفرض عليها السهر بتأثير الغناء. 

بينما تقدم قصة الثاني فكرة البحث عن الخلاص من الألم الجسدي الذي يلازم السارد حيث مرض الصرع، فيتلقى النصيحة من أهله أن يذهب للسفر إلى الخارج. لكنه يكتشف أن العلة لا تكمن في الجسد وإنما في الروح، لذلك تحضر الأمكنة التي تزيل أسباب هذه العلة كالمقهى الذي تصدح بين جنباته صوت فيروز، وأيضا بسطة الكتب التي اشترى بعض الكتب منها حين وجد ضالته فيها. هذه جميعها دلالة تضع فكرة الخلاص بالغناء والكتب بالضد من السائد وسرديته، وذلك ضمن رؤية جمالية لا تقول سوى ما تريد أن تقوله القصة بوعيها الخاص. أخيرا هاتان عينتان فقط وهناك الكثير.