آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 7:41 م

أحداث العراق ومخاطر الانطلاقة العفوية

يوسف مكي * صحيفة الخليج الإماراتية

في مقالات سابقة، حذرنا من مخاطر الانطلاق العفوي، لقناعتنا بأن أي تحرك يهدف إلى تحقيق تحولات سياسية جذرية، ينبغي أن يستند على أربعة عناصر، هي القيادة والتنظيم والبرنامج السياسي، وتأييد شعبي واسع. ومن غير ذلك، لا يمكن التنبؤ بمآلات هذا التحرك، وتغدو إمكانية اختطافه واردة، ومحتملة.

كان المفكر الإفريقي، المارتنيكي الأصل، فرانز فانون، والذي ارتبط بالثورة الجزائرية، وصار من منظري جبهة التحرير الوطني، قد نشر كتاباً في الأيام الأخيرة من حياته، التي لم تمتد طويلا، حمل عنوان «معذبو الأرض»، حذر فيه من مخاطر غياب البرنامج السياسي والفكري، لحركات التحرر الوطني. وقد رأى أن غياب البرنامج السياسي، من شأنه أن يلحق الضرر بحركة التحرر الوطني، وأن يجعلها خاوية من غير برنامج، لحظة تمكنها من انتزاع الاستقلال، وتسلمها لقيادة الدولة.

وقد بات هذا الكتاب، ولا يزال دليلاً نظرياً لكثير من حركات التحرر الوطني، في القارات الثلاث: آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، كما هو أيضا مرشد لكثير من الأحزاب السياسية اليسارية.

قبل صدور هذا الكتاب بعقدين من الزمن، كان الزعيم الثوري الصيني، ماوتسي تونج، قد دخل في سجال نظري، مع زملائه في الحزب، حين اندلعت انتفاضة فلاحية، في مقاطعة هيونان، تمكنت من طرد الملاك، وتوزيع الأراضي على الفلاحين. وكانت الانطلاقة عفوية في أصلها، لم تكن موجهة سياسياً، ولم يقف خلفها أي نخبة من النخب الثقافية. ولم تكن تحظى بأي تأييد من أي من القوى السياسية الفاعلة في الصين في عقد الأربعينات من القرن الماضي.

في تلك الفترة، احتار الشيوعيون في الموقف الذي ينبغي أن يتخذوه، تجاه انتفاضة هيونان. وكلف الزعيم ماو بزيارة موقع الانتفاضة، وتقديم تقرير عن الموقف الذي ينبغي تبنيه منها. وقام ماو بزيارة الموقع بالفعل، وقدم تقريراً ثرياً، حدد فيه ما ينبغي أن يقوم به حزبه تجاه الانتفاضة المشتعلة، وأشار إلى أن هذه الانتفاضة إن لم يتقدم هو وزملاؤه لقيادتها، فإنها أمام عدة احتمالات، إما السقوط، بفعل غياب الرؤية والنخب المبدعة، أو أن يجري اختطافها، من قبل الخصوم. ورأى أن الحل العملي هو أن يتقدم الشيوعيون لقيادة هذه الانتفاضة، ويوجهونها بما يخدم أهدافهم وغاياتهم، واستراتيجياتهم. وكانت سيطرة الشيوعيين على منطقة هيونان هي المقدمة لما بات شهيرا في التاريخ السياسي الصيني، بالمسيرة الطويلة.

لم تكن هذه الأفكار بعيدة عن خاطري، وأنا ألحظ الحراك السياسي الملحمي والحركات الاحتجاجية، التي حصلت، والتي حملت مسمى «الربيع العربي» في نهاية عام 2010، في تونس أولاً ثم انتقل بسرعة الهشيم، إلى مصر وليبيا واليمن وسوريا. في ذلك الحين، دخلت في سجالات واسعة مع بعض الأشقاء المصريين، ممن تحمسوا لما جرى، حذرت فيها من الإغراق في التفاؤل. وأن من شأن غياب القيادة والتنظيم والبرنامج السياسي، أن يودي بهذا الحراك، ويجعله في خدمة خاطفيه. وقد تحقق ذلك بالفعل، حيث قفزت عناصر التطرف والإرهاب، لتملأ الفراغ، ولتدمر آمال وطموحات الجموع، التي تحلقت في الميادين.

في العراق الآن حراك شعبي، في عدد من المدن الرئيسية بجنوب البلاد، بدأ في البصرة، وامتد إلى النجف وكربلاء والكوفة والسماوة. ولن يكون بعيدا أن تنتشر هذه التظاهرات قريبا لتعم مختلف المدن العراقية. وقد بدأت الحكومة خطوات تبدو يائسة لقمع هذه الانتفاضة، ومن الممكن أن تتسع دائرتها، وأن يستولي المتظاهرون، على المقرات والمراكز الحكومية في تلك المدن، لكن ذلك لا يعني أن ينجح المحتجون في تحقيق الشعارات التي رفعوها، منذ اليوم الأول لحركتهم الاحتجاجية.

فالعوامل التي أشرنا إليها، في صدر هذا الحديث من ضرورة وجود قيادة وتنظيم واستراتيجية لكي تنجح الحركة السياسية، تكاد تكون معدومة. وما هو ثابت لدينا حتى الآن، أن هناك احتقاناً شديداً، لدى غالبية أبناء الشعب العراقي، نتيجة لتغول الفساد، حيث باتت أخباره، في كبريات الصحف العالمية تزكم الأنوف. يضاف إلى ذلك عجز الحكومة عن مقابلة استحقاقات الناس الأساسية، من سكن وماء نقي وكهرباء، وتعليم، وخدمات صحية.

لقد تم احتلال العراق، من قبل الأمريكيين، عام 2003، تحت ذريعة امتلاكه لأسلحة الدمار الشامل، وأيضا باتهام القيادة العراقية بوجود علاقة لها مع تنظيم القاعدة. وتكشف لاحقا زيف تلك الذرائع. وأن ذلك الاحتلال كان مقدمة لمشروع المحافظين الجدد، الهادف لتفتيت المنطقة بأسرها، وإخضاعها خدمة للمشروع «الإسرائيلي».

لم يكتف الاحتلال الأمريكي، بتدمير العراق والقضاء على دولته، بل رتب لعملية سياسية، تضمن بقاء العراق مفككا إلى ما لا نهاية، حين اعتمدت تلك العملية على التقسيم الطائفي والإثني، وغيبت فيها حقوق المواطنة، وأسس الدولة المدنية الحديثة.

أي تحرك لإجراء تحول حقيقي في أرض السواد، هو أقرب إلى المستحيل، في ظل التجريف الواسع للحركة السياسية، وغياب المصالحة الوطنية، والقمع المتعمد للحريات.