آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 11:37 ص

أبي العابدُ في البحر

المهندس هلال حسن الوحيد *

النظر في ثلاثةِ أشياء عبادة: النظر في وجه الوالدين، وفي المصحف، وفي البحر.

الربُّ في الثلاثة وفيها أصلُ الوجود.

في السابعةَ عشرَ من عمري رأيتُ والدي يسكنُ الفراش. كم آلمني أننا لم نمشِ ولم نعمل ولم أتعلم منه ما يتعلم الشاب من أبيه. لكنني تعلمت منه أن أعبدَ الله كُلَّ يومٍ انظر إلى البحر! كم كتبتُ عن والدي لأكفر عن خطايايَ فيه وكم عبدتُ الله على شاطىءِ البحرِ كالطفلِ انتظر عودتهُ وأعلمُ أنه لن يعود.

كلما زرته في سنيهِ الأخيرة وكانت زيارةَ العاقِ يسأل هل لا زالَ فلانٌ يدخل البحر؟ هل فلانٌ يرتاد البحر؟ لابد أنَّ ماءَ البحرِ كان يجري في عروقه وبين حناياه  وليس الدم. بلى كان يدين ويهيم في حب البحر. لم يسكن والدي المساجدَ ولم يصلي مئاتِ الركعاتِ في اليومِ وكان العابدَ للهِ من حيث لا يدري، العيالُ والبحر. ولِمَ لا فالبحر يجمع عظمةَ الرَبِّ وهباته للمخلوق.

كم عبدَ الله في البحرِ من به الهم وكم عبدَ الله في البحرِ من عشق، إنه ذاك الذي لا يفضح الأسرار. هل رميتَ يوماً رسالةً في البحرِ كتبتها من الحبر؟ سوف يمحو البحرُ الحبرَ ويعطيكَ الورقةَ ظناً من أن يكشف سِرَْ العاشقين. عجز الادباءُ عن تطويع الشعرِ فصاغوا له بحوراً من الجمال وكلما عجز البشر عن كشفِ سِرٍّ في شيءٍ سموه بحراً. تغنى البدويُ في الصحراءِ وجمالها وسكينتها وتغنى من قاربَ البحرَ في خفاياه، كلاهما عالمٌ مجهول.

كان والدي يديم النظر إلى البحر ويعلم ما به من أسرار وكأنه يقول ما افتقر من عنده بحر. ما تحويه البحارُ من نفطٍ وغازٍ ملأه بكل العابرينَ والمستكشفينَ والهاربينَ إلى الحياةِ من الموتِ والهاربينَ من الحياةِ إلى الموت.  تعود بي الذكرياتُ إلى أيامِ العملِ في منصات النفط في البحر، لا ترى سوى السلمَ اللامتناهي وأملَ الشعوب بالثروة. سِلْمٌ يُغري العابرينَ إلى المجهولِ وإذا ما مشوا فيه انتصب الموتُ وحل مكانَ الجمالِ والسكون.

إرمي لمن عشقت رسالةً في البحر اليوم وانظرها تعود فقد عثر صيادٌ بريطاني في الثاني عشر من أبريل عام 2012م قبالة سواحل جزر شتلاند على رسالةٍ في زجاجة يبوح فيها شخصٌ مجهول لحبيبتهِ الغائبة عام 1914م. قف على شاطىء البحرِ اليوم وبثه شكواكَ من عالمنا المجنون وبح له بأسرارك. أنت تعبد اللهَ وهو لن يكشف أسرارَ من نفاهم الحب إلا لهم.

مستشار أعلى هندسة بترول