آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 11:37 ص

عودةُ الشيخِ إلى الصبا

تركَ صديقٌ لي العملَ باكراً في حياته لكن القَدَرَ لم يتركهُ طويلاً. أصابته العللُ وأودت به بعد مدةٍ قصيرة. رأيته مرةً وكان يُخفي ما به من داء. تذكرنا الماضيَ والحاضرَ والمستقبل. تطفلت وقلتُ له ماذا يشغل وقتك بعد أن تركتَ العمل؟ أسئلةٌ نستريحُ عندما نسألها دون أن يكون الجوابُ ذا معنى. قال صديقي أشغل وقتي في أمرينِ وهما تربيةُ النحلِ وتطعيمِ الشجر. أربي النحلَ وأحصل منه على بعضِ العسلِ في المنزل، ارتاحُ لرؤية الملكةِ والخدم. عندي أشجارٌ قليلةٌ في حديقةِ المنزلِ عندما يأتي الربيعُ أعمل على تطعيم نوعٍ بآخرَ وينمو شيءٌ جديد.

في طبعي البشري وأنا حينها مثقلٌ بأعباءِ العمل قلت له بصوتٍ يمازجه الاستعلاء وهل تعطي للنحلِ اسماءً؟ هل تسمي الملكةَ نَحُّولْ والعاملات لهم أسماءَ تعرفهم بها؟ لم يدع القدرُ لي معرفةَ الجواب. قرأتُ في نعيِ الموتى اسمَ صديقي بعد مدةٍ قصيرة. أحزنني موتهُ وتذكرتُ فيهِ نفسي والأيامَ واللياليَ التي التقينا فيها في أيامِ الدراسةِ الجامعيةِ في ثمانيناتِ القرن الماضي.

أشهرٌ قليلةٌ قبيل موته تركتُ العملَ باكراً معتقداً أن أرضَ الفراغِ أكثرَ إخضراراً، مائدةٌ وإبريقٌ ومنامٌ وفيرٌ صومعةٌ يشتاقُ إليها كُلُّ طالبِ راحة. مرت سنةٌ بعد اللقاءِ ونظرتُ إلى ما سخرتُ منه إن كان ما فاتَ في السنةِ أرقى مما نظرتُ أنه لا فائدةَ منه؟ كنتُ أتوهمُ أن مع الراحةِ والفراغ  سوف أغيرُ العالمَ وليس فقط حياتي لكنني لم أستطع فعل ما كان يفعله صاحبي الذي حصل على تعليمهِ من جامعةٍ راقية في الولايات المتحدة وعمل مع شركةِ أرامكو سنواتٍ طويلة.

ليس كل من غادر حلبةَ الصراعِ مع العمل يقضي وقته في صومعةٍ راكعاً وساجداً لكن جلهم يستطيع أن يعملَ شيئاً ما ولو كان صغيراً! يخسر الأفرادُ والمجتمعاتُ والدولُ طاقاتٍ تموتُ في أرضِ الفراغ دون أن تُزهر أو تُثمر ما ينفع. جيلٌ يتركُ العملَ وهو مليءٌ بالخبرةِ والقدرةِ على التعليم في المدارسِ والجامعاتِ والتطبيبِ في المستشفيات والهندسة والتفكير والتنظير بثمنٍ قليلٍ أو بدون ثمن.

يحمل الفردُ هَمَّ كيف يقضي ذلك الوقتَ الثمين الذي منحه الربُّ أواخرَ عمرهِ وهو يزخرُ بالقوةِ والنشاطِ وفي الغالبِ يميلُ الكثيرُ إلى معاشرةِ الفراغِ واللا شيء، رويداً رويداً يستهلك قواه حتى يأتيَ يومٌ يقرأ الناسُ في صفحةِ الوفياتِ اسمه ويقولونَ كان طبيباً أو كان مهندساً أو كان مفكراً انزوى ومات.

أيامُ الفراغِ طافحةٌ بألوانِ الفرصِ ولكنها قد تكونُ مثل السرابِ الذي يغريكَ بالماءِ كلما اقتربتَ منه حتى ما إذا وصلته وجدته لا شيء. ابحث في خبايا نفسكَ عن شيءٍ تحب أن تفعلهُ باكراً في حياتك ولا تستطيع حتى إذا ما جاءَ يومٌ أعطتك الحياة فيه الفرصةَ افعله. ذلك الدرسُ الذي لم تحضره، تلك الصنعةُ التي لم تتعلمها أو العمل للإنسان الذي انتظرته أو ذاكَ المالُ الذي لم تكسبه. إنك لن تسافرَ كُلَّ الأيامِ ولن تصلي كُلَّ الساعات أو تعد ضحايا العبثِ على شاشاتِ التلفاز وتبقى رهبةُ الفراغِ ورهبةُ الموتِ متساويتانِ غيرَ أنه في الأولى تعطينا الحياةُ فرصةً وفي الثانيةِ استهلكنا كُلَّ الفرص.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
طاهرة آل سيف
6 / 8 / 2018م - 4:37 ص
( ابحث في خبايا نفسكَ عن شيءٍ تحب أن تفعلهُ باكراً في حياتك ولا تستطيع حتى إذا ما جاءَ يومٌ أعطتك الحياة فيه الفرصةَ افعله ) جملة في سطور ، لكنها تختزل حكمة بالغة لتوجيه طاقة الإنسان الجبارة التي غالباً مايهدرها ويستهينُ بها..

جملٌ وسطور على مكانة رفيعة من الإنتظار لقرائتها في كل مقال ..
مستشار أعلى هندسة بترول