آخر تحديث: 23 / 4 / 2024م - 9:08 ص

الصهيونية.. من حق التوراة إلى الهيمنة الاقتصادية

يوسف مكي * صحيفة الخليج الإماراتية

ركز الصهاينة، عند تأسيس حركتهم، على ثلاثة عناصر، روجوا من خلالها لقيام وطن قومي على أرض فلسطين، هذه العناصر هي الحق التاريخي، والتفوق، وفرادة الاضطهاد.

والحق التاريخي، وما طرأ عليه من تبدلات على أرض الواقع، هو موضع اهتمام حديثنا هذا. فالأساس الذي استند إليه الصهاينة، حتى يومنا هذا في اغتصاب فلسطين، هو أنهم أقاموا كياناً لهم على أرض فلسطين. يضاف إلى ذلك أنهم وعدوا من قبل الله باستخلاف فلسطين، وأن ذلك يمنحهم حقاً تاريخياً وتوراتياً، على هذه الأرض.

إن المتابع لجذور الحركة الصهيونية، وتطور مناهجها وتفكيرها يلحظ من الارتباكات في طروحاتها، ما يصل حد التناقض. فهي أولاً حركة تطرح عقيدة سياسية، ناتجة عن مورثات أوروبية، متعددة ومركبة، متجذرة في الواقع الاجتماعي والاقتصادي الذي عاشه اليهود في «الغيتوات» بأوروبا الشرقية، على وجه الخصوص، والمجتمعات الأوروبية بشكل عام في زمن محدد، هو نهاية القرن التاسع عشر الميلادي.

والأمر الذي يستحق الملاحظة هنا، هو أن الصهاينة اعتمدوا في ادعاء حقهم في فلسطين، على أساطير وخرافات، رغم أن الطلائع الأولى من قادة الحركة الصهيونية، هي خليط من الحركات السياسية، بينهم اشتراكيون، وتحريفيون ومحافظون، وما إلى ذلك من اتجاهات سياسية أخرى.

ورغم التنافر الفكري بين هذه المجموعات، فإن ما وحدهم هو الاعتقاد، بأن اليهود يشكلون أمة وشعباً، وأن ذلك يمنحهم حقوقاً قومية ثابتة، صامدة عبر الزمن، وغير قابلة للتغير. إن هذه الخصوصية، هي من وجهة نظر الحركة الصهيونية التي جعلت من اليهود شعباً غير قابل للانصهار في بوتقة الحضارات الأخرى.

ويجمع قادة الحركة الصهيونية، على أن اليهود قد وجدوا باستمرار في فلسطين، منذ تدمير المعبد الثاني، عام 63 قبل الميلاد. وأن حالة النفي الدائم التي عاشوها، بعد تشريدهم على يد الرومان، قد وضعتهم في موقع الغرباء في مختلف أنحاء العالم، ورغم ذلك فإن حالة الغربة لم تضعف من جذوة رغبتهم في العودة لفلسطين. وأن عليهم من أجل تحقيق هذا الهدف، ألا ينتظروا الإنقاذ الإلهي لهم من المنافي.

وعلى هذا الأساس، فإن الهدف المعلن للصهاينة هو إعادة اكتساب كيانهم في حدوده التاريخية السابقة، ضمن السردية التي يروجون لها.

لن نجادل هنا، بأن الادعاء الصهيوني هو غير تاريخي، وغير علمي، لأنه يوقف تاريخ اليهود، عند لحظة تاريخية مضى عليها آلاف السنين. وهو بذلك يلغي أهم قوانين الحركة. وهو أيضاً ينطلق من نظرة شوفينية وعنصرية، تقوم على نظرية الاصطفاء، والصفاء العرقي. ولا يوجد علمياً ما يؤكد ذلك. سنسلم من باب السجال في هذا الحديث بالادعاء الصهيوني في فلسطين، لكن ذلك سيضعنا أمام عدة مسائل مهمة، تضعنا في إشكاليات عدة لا تقل هشاشة عن هشاشة العناصر الثلاثة التي استند إليها المشروع الصهيوني، والتي أشرنا إليها في صدر هذا الحديث.

ما هو الزمن التاريخي الذي يمنح شعوباً الحق في الادعاء بملكيتها لأوطان؟ وما هو السند القانوني المتفق عليه كونياً، الذي يدعم هذه الادعاءات؟ والسؤال الأصعب هو أين حدود هذه الأرض؟ وهل لا يتناقض هذا الادعاء مع حقوق شعب آخر، أقام على هذه الأرض لآلاف السنين، في سلسلة طويلة من الحقب، كما هو الحال مع الشعب العربي الفلسطيني الذي أقام على هذه الأرض آلاف السنين، في سلسلة متصلة وممتدة.

من حيث الزمن، فإن ادعاء الصهاينة في فلسطين يستند إلى سردية تاريخية تشير إلى أن اليهود قد حكموا أجزاء من فلسطين، طيلة فترة لم تتجاوز الثمانين عاماً، هي ما يعتبرونه عصرهم الذهبي في تاريخ اليهود، وهي فترة أقل بكثير من سيطرة الاستعمار التقليدي، على معظم شعوب بلدان العالم الثالث. والادعاء الصهيوني يشير إلى أن حكمهم لم يشمل كل فلسطين التاريخية، بل «يهودا والسامرة».

الدولة الصهيونية المعاصرة، كما بشر بها الفكر الصهيوني، لا تكتفي بالحدود التي يشار لها في السردية التاريخية اليهودية، بل تعتمد على أسباب أخرى، أهمها ما يشار له بالحدود الآمنة، وهي حدود لا علاقة لها البتة، بالسردية المزعومة. إنها حدود ليس لها علاقة بالحق التاريخي الذي يستند الصهاينة إليه في مطالبتهم باكتساب فلسطين.

إلى جانب الحدود الآمنة، أمور أخرى، لا تقل أهمية. فالصهاينة لا يريدون أي أرض ليقيموا عليها دولتهم، بل يؤكدون على قابليتها لتصبح دولة، معتمدة ذاتياً على مصادرها الاقتصادية. ومن هنا كانت مقولة «أرضكم يا بني إسرائيل هي من النيل والفرات».

ورغم السجالات والاختلافات حول صحة هذه المقولة المنسوبة لقادة الحركة الصهيونية، فإن سلوكهم، منذ تأسيس هذه الحركة يؤكد صحتها، حتى إن لم يوجد ما يؤكد صحة النص.

فعلى سبيل الأمثلة لا الحصر، أبدت الحركة الصهيونية منذ نشأتها اهتماماً خاصاً بتحويل مياه نهر الليطاني، إلى نهر الأردن، واستغلالها كمصدر للري والطاقة الكهربائية. وفي ذلك كتب مؤسس الحركة الصهيونية ثيودور هرتزل «إن المؤسسين الحقيقيين للدولة القديمة الجديدة، كانوا مهندسي مياه، تجفيف المستنقعات وسقاية المناطق القاحلة، وفوق كل ذلك، شبكة من محطات الطاقة، وفي هذا يكمن كل شيء».

وفي هذا السياق، كان اقتراح رفع منسوب مياه البحر الميت، عبر قناة من البحر المتوسط، أو من نهر الليطاني، الذي يتم وصله عبر قناة في الحاصباني، على أن تنقل مياهه إلى نهر الأردن، المنوي تحويله للكيان الغاصب.

هذه المقدمة، أردنا من خلالها التأكيد على أن المشروع الصهيوني، هو ليس الحق التاريخي، وفق حدود السردية القديمة، بل تأسيس كيان استيطاني أوروبي، بحدود «آمنة»، وثروات مائية يتم السطو عليها من البلدان العربية المجاورة، من الليطاني في لبنان، وبحيرة طبرية في سوريا، ونهر الأردن ومياه النيل.