آخر تحديث: 25 / 4 / 2024م - 9:08 م

البس ما يشتهي الناس

زكريا العباد

تذكرت فيما يتذكر المستيقظ السرحان المثل الشعبي: ”كل ما تشتهي، والبس ما يشتهي الناس“، وإني لأتذكر تلك الأيام التي ساد فيها هذا المثل ثم باد بكثير من الحسرة، أتذكر معه ملامح أزمنة منقضية تقصفت وتقصفت معها أجزاء من كتاب العمر تحت وطأة عجلات الزمن، فكان هذا المثل الذي تراكم عليه بعض الغبار الذي تقاذفته أمواج الذكرى من الماضي السحيق إلى أن طرحته على ساحل اليوم.

ونحن، أَيُّهَا القارئ الكريم، ككائنات متذكرة - ناسية، لا نكاد - في الحقيقة - نتذكر السبب الحقيقي لتذكرنا أمورا ابتلعها النسيان، إذ ربما كنت أرتدي ثوبا، أو أمضغ طعاما قبل أن أبتلعه، حين شرعت في التفكير في هذا المثل، وقررت أنه يستحق أن أجري وراءه لأتأمله وأكتشف خوابيه، أو لنقل: قبل أن أجرّه إليّ لأخضعه لمختبر تأملاتي. فما أعجب هذا الإنسان الذي تختلط فيه الذكرى بالنسيان، فلا تكاد تعرف إن كان مريدا للذكرى، أو أن للذكرى إرادة ذاتية حين تسدد رميتها إلى ذاكرته فتصيب هدفها.

لا شك لدي أن الإنسان الذي أطلق هذا المثل لم يكن يعيش في زمن يشابه زمننا كثيرا من حيث مساحة الحرية الفردية وحجم التدخل الاجتماعي في خيارات الفرد وفرض الإرادة الجماعية على الإرادة الفردية بحيث لا يبقى للإنسان مساحة اختيار سوى في الأمور اللصيقة جدا بداخله، تلك الأمور التي لا يمكن للمجتمع أن يصل إليها.

ما يلفتني في هذا المثل هو أنه شبيه بلوحة فنية تقسم الوجود بالنسبة للفرد إلى مساحتين: مساحة داخلية تبدأ مما لا يراه الناس، من ملابسك الداخلية التي تلامس بدنك، من الطعام الذي يختفي في داخلك، من كل ما يمكن أن يكون مخبوءً عن أعين الناس، هذا المثل يقيم علاقة تقابل وتضاد بين هاتين المساحتين، مساحة للظلام وأخرى للضوء، مساحة مظلمة للفرد وأخرى مضيئة للمجتمع، مساحة سرية للفرد ومساحة معلنة للمجتمع، سلوك باطني للفرد، وسلوك ظاهري في المجتمع.

تبدأ إرادتك حيث تنتهي المساحة التي تصلها أعين الناس، هنا فقط توجد إرادتك، في الخارج ليس لك إرادة، في الخارج العقل الجمعي هو الفاعل ولا مكان للتمايز الفردي، فالفردانية عبر تقسيمة المثل هي قرينة ”الأكل“، الأكل بما فيه من ”تذوق“، تلك ”المعرفة“ الوحيدة التي لا يمكن للمجتمع التحكم فيها.

هذه فكرة بسيطة يمكن تأملها بسهولة من خلال تحليل نص المثل بمثل هذه الطريقة الظاهرية السالفة، ولكن يمكننا التقدم خطوة للأمام لنتساءل عن المساحة التي تقع خارج الوعاء الهضمي ”وعاء التّذوق السري“ الممتد من فتحة الابتلاع إلى فتحة الشرج، السؤال عما هو داخل الملابس وتحتها ولكنه - في الوقت ذاته - خارج هذه القناة وتحت الملابس، إذ أن المثل يحدد ”النظر“ والرؤية والعين كمعايير لترسيم الحدود بين منطقتي الإرادة الجمعية والإرادة الفردية، ولكن السؤال الآن عن منطقة حدودية متنازعٍ عليها، إنها منطقة ”الجنس“، فهل يملك هذا المثل البسيط إجابات عن هذه المنطقة؟!

أول ما يمكن ملاحظته في الإجابة عن سؤال النشاط الجنسي أنه فعلا يقع مكانيا ضمن فراغ هندسي يتوسط قضيتين يطرحمها المثل، وهما قضية ”الأكل“ وقضية ”اللبس“. بمعنى أن مساحة الفعل الجنسي تقع جغرافيا أو هندسيا في هذه المنطقة الوسيطة كما هو معروف، وتتركز ضمن حاسة ”اللمس“ إذ يمكننا القول أن النشاط الجنسي هو نشاط تلعب فيه حاسة اللمس الدور الأبرز حتى أن المباشرة بين أعضاء الطرفين ليست سوى ملامسة إذا ما أردنا تبسيط الأمر.

والملاحظة الثانية في المثل هو أنه جعل قضية الجنس قضية مسكوتا عنها، كما يمكن القول أو الادعاء أنها قضية غائبة، ويمكن القول أيضا أنها

قضية مغيّبة، إما عمدا أو بلا وعي، بيد أن اللاوعي لا يكاد يخفي شيئا إلا وترك في الظاهر علامات تدل على ما أخفاه، وهذه العلامات في مثلنا المتأمل فيه هي هذه القسمة الفراغية ”الهندسية“ غير المحكمة والمتخلخلة بمنطقة حدودية متنازع عليها، وهذه القسمة في الحواس ما بين التّذوق والنظر، هذه القسمة تحيل المخيّلة إلى حواس أخرى بدلالة التجاور الفراغي، إنها حاسة اللمس التي نلمحها في مشهدية تذوق الطعام وابتلاعه، هذه المشهدية ليست بعيدة عن مشهدية الجنس القائم على اللمس، إذ أن التّذوق لا يمكن أن يحصل بدون تماس ورطوبة وابتلاع وكلها أمور تشير إلى مشابهة التّذوق للّمس وتحيل إلى الجنس من خلال ميكانيكياته المعروفة.

والملاحظة الثالثة في سياق الإجابة عن سؤال الجنس في المثل، هي أن المثل يمكن النظر إليه كمقولة عامة عن مساحات حركة الحرية الفردية، فالمثل يقول بعبارة أخرى: ”إن الفرد في هذا المجتمع تنحصر إرادته فيما يطعمه ويتذوقه ولا يمكن أن يكون له رأي في مقابل رأي المجتمع حتى فيما يلبسه“. فالسؤال الذي يتبادر إلى الذهن بعد استماع هذه المقولة هو: وماذا عن خياراته الأخرى كالزواج مثلا؟! فيجيبك المثل مباشرة لو حاورته: بالطبع إن الفرد لا يملك قرار زواجه! فما دام لا يتحكم في لباسه، وما دام لا يملك التحكم إلا فيما يدور في داخل فمه وأمعائه فهو بالضرورة ومن باب أولى لا يملك قرار زواجه إذ أن الزواج شأن اجتماعي ظاهر تتداخل فيه عوامل اجتماعية عدة وليس بالأمر المكتوم في ظلمات السر، عليه فليس الزواج من شأن الفرد بل هو من شأن المجتمع تقرر فيه القوانين الاجتماعية ما تشاء، وليس للفرد منه سوى ما خفي عن أعين الناس، أي العملية الجنسية ذاتها.

وبناءً على هذه الملاحظات الثلاث يمكننا الاستنتاج أن الجنس في المثل هو مرتبة وسيطة بين اللباس وبين الطعام، فلا هو بالشأن العام تماما، فالفرد هو من يمارسه في خلوته، ولا هو بالشأن الخاص تماما، فالفرد لا يملك قرار الاختيار حين البدء ولكنه يملك الخاتمة، فهو إذا يملك جنسه جزئيا، ويملك أدواته الجنسية بشكل جزئي.

غير أن النتيجة الخطيرة والأهم التي يمكننا استنباطها من هذا المثل هي أن هذا المثل في شكله هذا هو أشبه ما يكون بنص قانوني يقرر ويعكس الواقع الجنسي في علاقته بالمجتمع. وما أريد قوله هنا بوضوح أن هذا النص ”المثل“ يمكن اعتباره وثيقة تبريرية للحياة السرية للسلوك والأفكار، بمعنى أنه مثل منحاز للفرد جزئيا في ما يمكن أن تتيحه خيارات ذلك الزمن، فهو يحمل خطابا ضمنيا موجها للفرد وليس للمجتمع: ”كل ما يعجبك“، أي مارس حياتك السرية بحرية، وكأنه يضع الحل لمعضلة يرزح تحتها إنسان ذلك الزمن: إذا كانت حريتك مقيدة في الخارج حتى على مستوى ما تلبس فلا تواجه المجتمع ولا تصطدم معه فليس بإمكانك الصمود أمام قوته، ولكن ما يمكنك فعله هو أن تُمارس حريتك في داخلك، أن تُمارس حريتك في الخفاء، هذا المجتمع يدفعك للنفاق، فليكن إذا!.