آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 2:22 م

أنشودة المطر

ميرزا الخويلدي * صحيفة الشرق الأوسط

أمس غرقتْ شوارعُ الكويت بمياه الأمطار، ليس معتاداً أن تتحول الكويت إلى «فينيسيا» الإيطالية، وأن تغوص السيارات في الماء، لكنه حدثْ. وقبله بأيام غرقت طرقات في مكة المكرمة، ذات الطبيعة الجبلية حيث تنهمر المياه كطوفان نحو الأودية قادمة من الجبال المحيطة بالمدينة المقدسة، وكذلك غرقت جدة عروس البحر الأحمر في مياه المطر، وقبل أيام غرقت مدن أردنية في الماء وتسببت السيول في كارثة بشرية في منطقة البحر الميت، أما العراق الذي يواجه الجفاف، ففي كل عام يرتل «أنشودة المطر» رائعة بدر شاكر السيّاب.

لبنان، أصابته غواية المطر، فراح يغني مع فيروز «شتي يا دنيي.. تيزيد موسمنا ويحلى»! حتى نزار قباني مزج الحبّ والمطر في بيروت، كما في قصيدته: «بيروت والحب والمطر»: «عندما تمطر في بيروت.. تنمو لكآباتي غصونٌ، ولأحزاني يدان».

يستبشر العرب بالمطر، مبشراً بالأمل والخصب والنماء، حيث أرضهم ينهشها الجفاف ويخنقها الظمأ. فالمطر بُشرى للأرض العطشى وللمراعي الجرداء، وللنفوس المشتاقة لقطر الندى!. كان الأطفال يهزجون في حارتنا إذا نزل المطر، وكانت النساء يستبشرن بهذا الغيث ويطلقن الزغردات، وانغرس في الوعي الشعبي التفاؤل بنزول المطر... كانت القرى التي تعانقها الحقول تفرغ حمولتها من الماء في السواقي، وعلى ضفافها ينشد الشعراء قصائدهم، لكن ليس كل ما يتمنى المرء يدركه؛ فالمدينة الحديثة أحشاؤها ضيقة لا تحتمل كل هذا الغيث من السماء!

لم يعد المطر موسماً للفرح، بل امتحان لكل ما بناه الإنسان في منطقتنا، تلك الشوارع المزينة بالنيون، والمنشآت الفاخرة، تصبح فجأة مستنقعات بائسة...! مرة أخرى نفتش عن تعبير يليق بالوصف، فنجده في لغة الشعراء، يقول بدر شاكر السياب:

أتعلمين أي حُزْنٍ يبعث المطر؟

وكيف تنشج المزاريب إِذا انهمر؟

وكيف يشعر الوحيد فيه بالضّياع؟

بلا انتهاء - كالدَّم المراق، كالجياع،

كالحبّ، كالأطفال، كالموتى - هو المطر!

ومقلتاك بي تطيفان مع المطر

أما الناس الذين يجرفهم الماء الفائض في الطرقات، تعبيراً عن عجز البنية التحتية في بلدانهم عن استيعابه، راحوا يستسلمون لواقعهم، بل حولوه إلى طرائف ونوادر وتسالٍ وسيلةً للترويح عن النفس، وتنفيس الاحتقان.

إنهم في الكويت، كما في العراق والأردن وغيرها يعبّرون بالنكتة عن واقعهم الأليم؛ لأن الناس أوفياء للمطر أولاً، ولأن النكتة وسيلتهم للتخلص من المعاناة، وممارسة النقد بشكل غير مباشر. عالم النفس النمساوي، ألفريد إدلر يرى أن السخرية هي «خليط من انفعالين هما الغضب والاشمئزاز»، لكنه يلاحظ أن السخرية تمنح الناس شعوراً بالرضا «لأننا ننزع إلى الرضا عن أنفسنا والاسترواح إلى شعورنا، عقب مطاوعة السخرية والانسياق معها».

عموماً، فإن المجتمع صاحب النكتة هو مجتمع حيوي متسامح متعافٍ من الأمراض والعقد. يرى ديستوفيسكي أن «السخرية هي الملاذ الأخير لشعب متواضع وبسيط».