آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 3:46 م

حول البيئة المحفزة للابتكار

الدكتور توفيق السيف * صحيفة الشرق الأوسط

العقول المبدعة تولد في البيئة المحفزة للإبداع. كما أن العقول الخاملة هي النتاج المتوقع في البيئات المستكينة أو المتشككة في التغيير.

تحويل البيئة إلى محفز للإبداع يبدأ في المدرسة. ولا بدّ من القول ابتداء إنه ليس متوقعاً أن يتحول جميع الناس، أو جميع الطلبة، إلى مبدعين. ما قصدناه تحديداً هو زيادة نسبة المبدعين إلى أقصى حد ممكن، بالقياس إلى المجموع.

يبدأ تحفيز الإبداع بالتركيز على الأشياء العادية المحيطة بنا، وتحويلها من عناصر جامدة أو غير لافتة، إلى موضوعات للبحث والتفكير: أجزاء جسدك، الناس الذين معك، التراب الذي تمشي عليه، الجدار المحيط بالغرفة، شجر الحديقة، السيارة التي تركبها، الثوب الذي ترتديه... وكل شيء آخر تراه أو تسمع به أو تتعامل معه... هي موضوعات جدية للتفكير والتساؤل. وسوف تنطق فتجادلك أو تخبرك بأسرارها، لو وقفت منها موقف المتسائل والمتأمل.

كلنا، كبار وصغار، نرى هذه الأشياء كما نرى مئات غيرها. لكننا نادراً ما توقفنا وتساءلنا عن حقيقتها، أو عن سر وجودها في هذا المكان دون غيره، والعلاقة التي تربط بينها وبين بقية الأجزاء والعناصر، التي تشكل المنظومة الكبرى التي نسميها المحيط الحيوي أو البيئة الطبيعية.

سيقول بعض القراء - وهم محقون - إن طلابنا يدرسون القواعد العامة، التي تؤسس لفهم العلاقات الكلية بين تلك العناصر. وفي المراحل المتقدمة، يدرسون القواعد الأكثر تخصصاً وتفصيلاً. أي أنهم يبدأون بالكلي، كي يفهموا تالياً الأجزاء والتفاصيل. مثاله البسيط أننا ندرس قواعد اللغة الإنجليزية أولاً، وهي ستقودنا، كما يفترض، إلى إتقان اللغة ذاتها. كما ندرس القواعد العامة في الفيزياء مثلاً، كي توصلنا إلى فهم الظواهر الفيزيائية.

هذا واضح تماماً، وهو ما نفعله على الدوام. ونعرف أنه لم يكن مجدياً تماماً. ولهذا أدعو إلى اتخاذ الطريق المعاكسة، أي البدء بالعناصر والظواهر. هذه الطريقة تخدم هدفاً مختلفاً، هو إثارة اهتمام الطالب بتلك العناصر، ودفعه للتعامل مع بعضها كموضوع اهتمام شخصي، كي يكتشف من خلالها الطريق التي يظنها أقرب إلى تحقيق خياراته الحياتية، أي نوع الاكتشاف الذي سيحقق ذاته وسعادته الخاصة.

الفضول للمعرفة وكشف المجهول، غريزة طبيعية في كل إنسان. وهي في الشباب أقوى من غيرهم. ولولا هذا الفضول لما تعلم الناس أي شيء. دعنا إذن نأخذ هذه الغريزة إلى مداها الأقصى، بتركيزها على عنصر أو جانب محدد، وتشجيع الشاب على اختياره محوراً لحياته.

الذين أبدعوا واخترعوا، هم أولئك الذين استبد بهم الشغف بموضوع محدد، حتى أمسى شاغلاً لحياتهم، يفكرون فيه طوال اليوم، وقد يحلمون به. هذا لا يتحقق إلا إذا انضمت العاطفة إلى العقل، أي حين يمسي ذلك العنصر أو الموضوع هواية وحباً يملك حياة الإنسان حتى ينسى ما عداه.

أقول إن هذا ممكن، إذا تغافلنا قليلاً عن الروتين والنظام واختبار نهاية العام، وغضضنا الطرف عن الدروس التي لا تستهوي الطالب، إذا ساعدنا الطالب في اختيار ما يهواه ويحبه، واعتبرنا هذا نجاحاً لبرنامجه المدرسي، حتى لو أهمل كل شيء آخر.

أعلم أن هذا غير طبيعي، ولذا فهو عسير. لكني أعلم أيضاً أن شحن البيئة بمحفزات الإبداع، ليس في حقيقته سوى قلب المعايير المعتادة، وتغليب المجهول على المعلوم.

باحث ومفكر عربي من المملكة العربية السعودية.