آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 7:35 م

ابن عبّاد وحبر التاريخ

ميرزا الخويلدي * صحيفة الشرق الأوسط

يُنسّب للكاتب الأميركي الساخر، مارك توين قوله: «الحبر الذي كُتب به التاريخ ما هو إلا تعصب سائل»، ومن ذاك الحبر نُسجت قصة المعتمد بن عباد حاكم إشبيلية في الأندلس لنحو عشرين عاماً «1091 - 1068».

كان وينستون تشرشل يقول إن «التاريخ يكتبه المنتصرون» لكن المعتمد ابن عباد مات ذليلاً مهزوماً، وبقي أثره في التاريخ حتى اليوم، خاصة تلك الكلمة المراوغة التي تمنّى فيها أن يرعى الإبل في بلاد العرب، على أن يرعى خنازير الأعداء... أصبحت أيقونة للطهر السياسي يتمحك بها مفلسون لا يمكنهم أن يقرؤوا التاريخ بعيداً عن أحلامهم وأمنياتهم.

سيرة هذا الرجل ملهمة للخيال الروائي، والدرامي أيضاً، تجمع الملك والحبّ، والشعر، والحرب، وتلتقي فيها البطولة والهزيمة، والمروءة والخسة، والوفاء والخيانة، وتجمع بين الغنى الفاحش والفقر المدقع، وبين الحرية والعبودية... خليط من هذا وذاك، صاغت شخصية رجل السياسة الذي عاش مرحلته الأندلسية وتقلب فيها... استخدم السياسة بدهاء ومكر، قرّب الأدباء والشعراء وبينهم ابن زيدون وابن اللبانة، وحتى زوجته اعتماد الرميكية كانت شاعرة أيضاً... وخلال الصراع بين أمراء الطوائف في الأندلس تحالف المعتمد بن عباد مع ملك قشتالة ألفونسو السادس، ضد بني قومه من المسلمين... ولكنه في لحظة استغلال سياسي فاقع جمع العلماء والقضاء وأعلن أنه سيستعين بحاكم المغرب المسلم زعيم المرابطين يوسف بن تاشفين ضد القوى الأوروبية الزاحفة... وحين لامه البعض قال قولته الشهيرة: «لأن أرعى الجمال في صحراء العرب خير من أرعى الخنازير في أرض الصليبيين» ‏... وأصبح هذا القول حتى يومنا هذا خالداً لدى فئة من أهل السرد والخطباء والمعلقين... الذين يستهويهم قراءة التاريخ بانتقائية واشتهاء.

استخدم هذا القول مقطوعاً عن سياقه التاريخي، وعن مجمل السيرة المتقلبة للقائل، ويجري بتعسف سحبها على الواقع كاستدعاء للنموذج الذي يُراد تعميمه على الراهن المعاش.

ابن عباد يستحق مسلسلاً درامياً يتسلى بسيرته الناس، لا أن يصبح نموذجاً لرجل قيل إنه رفض التحالف مع المستعمر الغربي ضد بني دينه، ثم أطلق مقولته الشهيرة تلك... وكانت هذه المقولة مفتاح ولوجه لعالم القداسة في مجال لا قداسة فيه وهو السياسة.

كان ابن عباد نموذجاً لساسة الأندلس الفاسدين، ونكث العهد بعد أن قدم له بن تاشفين النجدة وعاد يتواصل مع ألفونسو حتى أطيح به من قبل المرابطين وأخذ أسيراً إلى أغمات في تونس وأودع السجن، وبقي هناك يتحّسر على سيرته السابقة، وأشّد ما أوجعه ما كان يسميه «يوم الطين» حين اشتهت زوجته اعتماد وقد رأت منظر الثلج كقطن ناصع في يد الندافة، ورأت فتيات في الشارع يخضن في الطين الممزوج بالثلج فتمّنت لبناتها أن تطأ أقدامهن الطين، فأجابها المعتمد إلى ما تمنّت ولكن بطريقته؛ حيث أمر أن يخلط لها أجود أنواع العطور والعود والمسك والكافور، مع الزعفران، ثم أمر زوجته التي لا يرد لها طلباً وبناته أن يخضن في ذلك المزيج الثمين. ثم مرت به الأيام ليرى وهو في السجن بناته وقد أعياهن الفقر والعوز يبعن ما يغزلن كي يسدن رمقهن من الجوع، وقد أتين نحو السجن يزرنه حافيات الأقدام... فقال:

فيما مَضى كُنتَ بِالأَعيادِ مَسرورا فَساءَكَ العيدُ في أَغمات مَأسورا

تَرى بَناتكَ في الأَطمارِ جائِعَةً يَغزِلنَ لِلناسِ ما يَملِكنَ قَطميراً

بَرَزنَ نَحوَكَ لِلتَسليمِ خاشِعَةً أَبصارُهُنَّ حَسراتٍ مَكاسيرا

يَطأنَ في الطين وَالأَقدامُ حافيَةٌ كَأَنَّها لَم تَطأ مِسكاً وَكافورا

مَن باتَ بَعدَكَ في مُلكٍ يُسرُّ بِهِ فَإِنَّما باتَ بِالأَحلامِ مَغرورا