آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 10:36 م

الإقليم.. مفهوم جيوسياسي

يوسف مكي * صحيفة الخليج الإماراتية

يستند مفهوم الإقليم، في الغالب على الطرق والمواصفات التي تستخدمها جهة ما دون غيرها. فأحياناً يعرف من حيث انعزاله أو انفصاله، كالقول بجنوب إفريقيا، أو من حيث الانسجام النسبي في الولاء والوطنية، كالوطن العربي، أو من حيث تسمية استراتيجية تطلقها واحدة من القوى العظمى كالشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا. وإذن فالتعريف في جانب كبير منه، تعبير جيوسياسي.

كما تواجهنا مشكلة حدود الإقليم، كنتيجة منطقية لغياب مقنع للمفهوم. فالواقع يؤكد أن العالم لا ينقسم بسهولة وفق خطوط مرسومة بشكل دقيق. إذ إن من الصعب تثبيت التقسيمات الإقليمية الموضوعة على نحو عقلاني، كما أن الحدود المقررة لخدمة غرض ما، ليست بالضرورة مناسبة لخدمة أغراض أخرى.

على أن اعتبار مسألة تثبيت حدود الإقليم قضية جيوسياسية، يجعل قضايا السيادة مرهونة بالهوى وتوازنات القوة، كما يجعل منها قضية اعتباطية. ولذلك يقترح الاختصاصيون بعض المعايير لتحديد شخصية الإقليم، بضمنها وجود صفات ومميزات مشتركة، تتفاعل فيما بينها بانتظام وقوة، تقيم من خلالها نمطاً من العلاقات والروابط فيما بين أجزاء الإقليم. ويرون أن العلاقة بين أجزاء الإقليم هي أشبه ما تكون بالأواني المستطرقة، بحيث يؤدي التغيير في أي جزء من أجزاء الإقليم إلى تغيير في أجزائه الأخرى. ويشترط في الإقليم، الوحدة، وأن تكون أجزاؤه الفاعلة متجاورة بشكل عام.

ومن المؤكد أن هذه المعايير لم تحسم التباين في المفاهيم والافتقار للإجماع حول هذه المسألة. ولذلك يمكننا الاستنتاج بأنه لا توجد قاعدة، متفق عليها، لتعريف الإقليم الجغرافي، كما أنه لا يوجد اتفاق بين الجغرافيين على الأساسيات العامة التي تحتوي وتشتمل على معظم التساؤلات المتعلقة بمكوناته. هل هو بقعة متكاملة من الأرض من حيث وحدتها الجغرافية: نهر ووادٍ وسهوب مثلاً؟، وإذا ما كان الأمر كذلك، فكيف يكون وضع الأقاليم التي لا تخضع لهذا المعيار، كأقاليم الظاهرة الواحدة، والأقاليم الأخرى ذات الظاهرات المتعددة غير المتجانسة؟.

وإذا أخذنا بالقول بأن شخصية الإقليم، تتحدد من خلال انتماء أهله لعصبية أو عقيدة واحدة، فهل لتلك العصبية صفة الثبات؟، وماذا يعني انتفاء تلك العصبية، هل يترتب عليه ذوبان الإقليم وفقدانه لهويته، وبالتالي لوجوده؟. وهل التجانس الطبيعي شرط لوجود الإقليم وهل هناك تخوم/حدود للإقليم، أم أنه يتوسع ويتقلص تبعاً لمتغيرات، وما هي تلك المتغيرات؟.

وهكذا ففي ظل هذا الركام من الأسئلة، وغياب المفهوم الدقيق والواضح، الذي يمكن إخضاعه للدقة العلمية، فإنه لا مندوحة من تخطي فكرة الوصول إلى تعريف مقبول للإقليم وتحديد خصوصيته، والاستعانة، بدلاً عن ذلك، بالعرف والتاريخ كي يسعفانا في حل هذه المعضلة.

فحين نأتي على سبيل المثال، للمشرق العربي، ويضم كما هو متعارف عليه، الجزء الآسيوي من الوطن العربي ومصر. فإن أول ما يلفت النظر، هو أن هذا الجزء من الأمة، شهد في العصور القديمة، ثلاث فورات حضارية رئيسية، كان نصيب مصر منها الحضارة الفرعونية، ونصيب ما بين النهرين الحضارات السومرية والبابلية والفينيقية، وكان نصيب جزيرة العرب، قيام الدولة العربية الإسلامية الكبرى التي بدأت في التحقق مع بزوغ الإسلام.

فيما يتعلق بوادي النيل كإقليم، شارك الجغرافيا والتاريخ، في صنع شخصيته حيث يمكن القول بوجود نوعين من الوحدة فيه، إحداهما جغرافية وتتمثل في وجود خط في القلب يشق البلاد من الجنوب إلى الشمال هو النهر، ويليه الوديان الملاصقة لضفتيه، ومن ثم السهوب في الغرب، والمنطقة الساحلية إلى الشرق. أما الوحدة التاريخية، فقد تحققت من خلال استمرارية البلاد في بوتقة سياسية واحدة على مر العصور.

أما فيما بين النهرين، فلم تتحقق وحدته السياسية بشكل مستمر إلاّ بعد مجيء الإسلام. وحتى حين تحققت هذه الوحدة، فإن هذا الإقليم كان جزءاً من الإمبراطورية العربية الإسلامية الكبرى. كما أن هذا الإقليم يفتقر إلى الوحدة والتجانس الجغرافي، ولم تتوفر تسمية تشمل معظم أجزائه إلا في وقت متأخر، حين أطلق على المنطقة الممتدة من العراق إلى البحر الأبيض المتوسط، تسمية الهلال الخصيب.

وحين نسلم بوحدة إقليم ما بين النهرين، فلعدة أسباب أهمها، إن فورة الحضارات التي قامت في هذا الجزء، من سومرية وبابلية وفينيقية، قد حدثت في أوقات متقاربة جداً، وأثرت بعضها البعض، مما أدى إلى تحقق تاريخ مشترك للإقليم بأسره. وقد تحقق الفتح العربي الإسلامي لها في حقبة تاريخية واحدة، ومنذ ذلك الفتح احتضنت تراثاً واحداً ولغة واحدة شكلت هويتها، ووجهت حركتها. وعند نهاية القرن التاسع عشر، وبدايات القرن العشرين، كان لهذه المنطقة الدور الريادي في انبثاق حركة اليقظة العربية. وقد تحملت مشتركة شرف قيادة النضال العربي، للتخلص من الهيمنة التركية، والاستعمار الغربي لاحقاً. وبعد احتدام الصراع العربي - الصهيوني أصبح هذا الإقليم، في كل الحروب التي خاضها العرب دفاعاً عن أرضهم ووجودهم جبهة للمواجهة مع «إسرائيل».

وبالنسبة لجزيرة العرب، فقد احتفظت طيلة حقب التاريخ بتسميتها. وقد استمد الإقليم خصوصيته من وضعه الجغرافي المميز، حيث الطابع الصحراوي، والواحات المتناثرة، وحيث البحر يحمي البلاد من ثلاث جهات، وتضطلع الصحراء بحماية البلاد في تخومها الشمالية. وبعد مجيء الإسلام، أصبحت البلاد مركزاً تهفو إليه أفئدة المؤمنين من كل أرجاء العالم.

والخلاصة أن ما لدينا هو سائد في تعريف الإقليم، غير ثابت وأنه محكوم في الغالب، باعتبارات جيوسياسية، أكثر منها عناصر الوحدة الطبيعية، وذلك ما ستكون لنا معه وقفة أخرى.