آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 6:17 م

موت رئيس.. ونهاية مرحلة

يوسف مكي * صحيفة الخليج الإماراتية

لم يكن الرئيس جورج بوش «الأب» شخصية عابرة في التاريخ الأمريكي. فقد كان الطيار المقاتل، ومالك آبار النفط في تكساس، والدبلوماسي، ومدير وكالة الاستخبارات المركزية، ونائباً للرئيس في دورتين متعاقبتين. وكانت رئاسته للولايات المتحدة لدورة واحدة آخر المحطات السياسية في حياته، الزاخرة بالأحداث.

عاصر الحرب الباردة منذ أيامها الأولى، وشهد وهو في منصب نائب الرئيس بداية نهايتها، وحين تسلم منصبه رئيسا بالبيت الأبيض، كانت الظروف قد نضجت لسقوط الاتحاد السوفييتي. وكانت بداية انهياره، قد ترجمها سقوط حائط برلين، وانفراط الكتلة الاشتراكية، وتسارع التحاق أعضاء تلك الكتلة، للانضمام للاتحاد الأوربي، وحلف الناتو.

ولأن التتويج على زعامة العالم، بحاجة إلى حرب، فقد افتتح الرئيس عهده باحتلال بنما، وإلقاء القبض على زعيمها نرويجا، وجلبه إلى السجن بالولايات المتحدة، بذريعة تزعمه لمافيا المخدرات. لكن ذلك لم يكن كافياً وحده لتتويجه وتتويج بلاده قائداً وحيداً على عرش الهيمنة العالمية.

وحين قام الجيش العراقي بغزو الكويت في الثاني من أغسطس عام 1990، وجد فيها الرئيس بوش، فرصة سانحة، لا تعوض، ليعلن بشكل لا لبس فيه، انتهاء الثنائية القطبية، وبداية عهد السيطرة الأمريكية، دون منازع، على القرارات الأممية، والمؤسسات الناظمة للعلاقات الدولية.

وكان إجماع الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي، بالتصويت على فرض الفصل السابع من ميثاق هيئة الأمم المتحدة، وإقرار استخدام كافة الوسائل، لطرد القوات العراقية من الكويت، هو شهادة من هؤلاء الأعضاء بأن دفة السفينة باتت بيد إدارة الرئيس بوش.

ويتذكر المتابعون لتلك الفترة علاقة المودة والانسجام بين وزير الخارجية الأمريكي، جيمس بيكر، ووزير الخارجية السوفييتي، إدوارد شيفرد نادزه. وتحضر مناسبة مناقشة القرار الذي أجاز الحرب على العراق، فقد كان بيكر يرى ضرورة ذكر كل الوسائل بما في ذلك الحرب، ولطف نادزه الجو موضحاً أن كل الوسائل تتضمن إشارة واضحة للحرب. وانتهى الأمر بصدور القرار الأممي، بما يقرب الإجماع.

في خطاب النصر، بعد انتهاء حرب الخليج الثانية، أعلن جورج بوش، أن العالم أجمع يثق في القيادة الأمريكية، وأن نتائج الحرب، وما سبقها قد أكدت أن القرن العشرين، هو قرن أمريكي بامتياز، وأن القرن الواحد والعشرين سيكون بالتأكيد قرناً أمريكياً.

لكن ما فات الرئيس بوش، هو أن سيطرة قطب واحد على العالم بأسره، هو نشاز في التاريخ الإنساني، وأن من شأنه القضاء المبرم على كل منجزات الإنسانية، فيما يتعلق بالسيادة والاستقلال، وحق تقرير المصير، وعدم جواز التدخل من قبل القوى العظمي في الشؤون الداخلية، للبلدان الأخرى. إن ذلك في طبيعته نفي للتاريخ، وتنكر لمبدأ صراع الإرادات.

لم يمض من الوقت سوى أقل من ثلاثة عشر عاما، حتى جاء أول تحد للتفرد الأمريكي في صناعة القرارات الأممية. والغريب أن هذا التحدي جاء من حليف لأمريكا، وعضو في حلف الناتو. حدث ذلك حين هددت الحكومة الفرنسية، باستخدام حق النقض، ضد مشروع قرار تقدمت به إدارة الرئيس جورج بوش الابن يجيز لأمريكا احتلال العراق، في بداية عام 2003. وقد فرض الموقف الفرنسي الصلب الرافض لاحتلال العراق، على الرئيس بوش الابن، خوض الحرب من غير موافقة دولية.

ومنذ ذلك الحين، كرت السبحة. تقدمت الصين الشعبية بخطى قوية وراسخة في تأكيد حضورها الاقتصادي، وباتت صناعاتها تنافس الصناعات الأمريكية في كل الأسواق العالمية، وبدأت تقترب من حافة التعادل في الدخل القومي مع الولايات المتحدة.

وفي روسيا الاتحادية برز بوتين قيصراً قوياً، يشق طريقه نحو إعادة بناء روسيا الجديدة. وتمكن في فترة قياسية، من بناء الترسانة العسكرية الروسية، محدثاً تطوراً نوعياً في صناعة الصواريخ والطائرات التي باتت تضاهي الصناعة الأمريكية وتتغلب عليها في بعض المجالات.

وعلى صعيد أخير، تشكلت منظومات اقتصادية وسياسية جديدة، باتت تمثل تحدياً صريحاً للهيمنة الأمريكية، من بينها مجموعة البريكس، وتضم البرازيل وروسيا وجنوب إفريقيا والهند والصين. وتشكلت مجموعة شنغهاي.

بدأ العالم مجدداً، يشهد صورة جديدة لحرب باردة غير معلنة، اتخذت أشكالا مختلفة، اقتصادية وعسكرية وسياسية. وخلالها بدأت الولايات المتحدة تتخلى عن الكثير من مواقعها. سحبت قواتها من العراق، وصارت تتفاوض مع طالبان في أفغانستان. وحين حدث ما يسمى «الربيع العربي»، أوكلت الإدارة الأمريكية الكثير من المهمات للناتو، ولم تقحم جيوشها مباشرة، في تلك الأحداث.

في عهد الرئيس الأمريكي الحالي، دونالد ترامب، تصاعد الصراع مع إدارة بوتين، فوق الأراضي السورية، وتحت ذريعة محاربة «داعش» جلب قوات أمريكية إلى سوريا، في الشمال والجنوب والشرق، ووضع خطوطاً حمر كثيرة، أمام الجيش السوري، سرعان ما تهاوت الواحدة تلو الأخرى، من خطوط حمر التنف، إلى دير الزور إلى شرق الفرات. ومن ثم الإعلان بشكل دراماتيكي، عن خطط انسحاب أمريكي سريع من سوريا، «بعد أن أكملت القوات مهمتها».

ما أكدته السنوات القليلة الماضية، هو استحالة تفرد قطب واحد على العالم، وأن التنافس والصراع بين الدول هو القانون الطبيعي. وفي هذا السياق، نأمل ونتطلع إلى انبثاق نظام دولي جديد، أكثر تسامحاً وعدلاً.