آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 7:41 م

الذاكرة الأخروية

﴿يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى‏﴿النازعات الآية 35

أين ما كنت تتمتع به من ذاكرة لا يغيب عنها دقائق تفاصيل الأمور والأحداث، فكنت تتباهى بحفظها والقدرة على سردها مرة أخرى كأنها تحدث للتو؟

هذه الذاكرة يوظفها البعض لتكون وسيلة استحضار للمواقف المسيئة له ولغيره، فأما ما يخصه من موقف أو كلمة تنتقص من شخصيته، فإن للشيطان الرجيم دورا في تأجيج الخلافات والأفكار والمشاعر السلبية تجاه من صادف معه موقفا، فلا ينسى لحظات وتفاصيل ما قيل مما يلهب انفعالاته ويتجه تفكيره نحو الانتقام والتجاهل لوجوده ومقاطعته.

وأما ما يحدث لغيره من مواقف أو يخصه من أسرار، فإن تلك الذاكرة الشيطانية تبقيها حية خالدة لا تبلى، من خلال مشاركته في أحاديث السوء والغيبة في المجالس بما يحدث بؤر فتن وخلافات متأججة بين الناس، بلا مبالاة منه بما سيشهده من جزاء على ما قدمت يداه وقد وقف الخصوم للمقاضاة.

وأما الجانب الإيجابي للذاكرة الحديدية وهو تذكر أخطائه وأوجه تقصيره لإصلاحها، فلا تلقى منه المبالاة وشدة الاهتمام بل يلفها الزمان بالغفلة والنسيان، وكأنه خالد لا يأتيه يوم مهول في أحواله يقف فيه على دكة الحساب والمجازاة، فإن كانت ذاكرته أصابها العطب وغاب عنه مبدأ محاسبة النفس فلما يتذكر ما اقترف من جرم في حق نفسه، فإن العدالة الإلهية الحاضرة في أدق أدق جزيئات حياته سيكون لها أيضا حضور في يوم القيامة، فلن يواجه بعقاب ولا عذاب حتى تقام عليه الحجة فيحكم على نفسه بما يخرس لسان اللجاجة منه، ستعرض عليه أعماله وكأنه يشاهد عرضا مطولا لحياته يوما بيوم ولحظة بلحظة، فما نسيه من قبائح أساء بها لنفسه حينما قارفها سيجدها معروضة أمام ناظريه، فهل يسعفه حينها النكران أو المراوغة بنكران سعيه كما كان يصنع في الدنيا تهربا من الإدانة والمجازاة.

وشتان ما بين من يتذكر ذنوبه وأخطائه في حق الآخرين في الدنيا والآخرة، ففي الحياة الدنيوية يمكنه من خلال مراجعة نفسه ومحاسبتها باستمرار على كل حركاته وسكناته، أن يتدارك خطاياه ويغير من واقع حاله السيء ويخلق حالة جديدة لنفسه قد خلت من شائبة المعصية والعيب، وأما في الحياة الأخروية فتذكره لكل تفاصيل حياته عند عرضها عليه، وعض الأصابع ندما والشعور بالخيبة والخسران وتأسفه لما صدر منه من الجحود للنعم والتجريء على المحارم، كل هذه البصيرة المتأخرة لا تجدي شيئا، ولا تدفع عنه ما يواجهه من أهوال وعقاب لا يتحمل بدنه الضعيف لحظة ولا مقدارا ضئيلا من العذاب الأليم الذي لا نهاية له.

وما شغل به نفسه طوال أيامه معرضا عن ذكر الله تعالى والعبادة التي تسمو بروحه لأعلى درجات التكامل والمنعة عن التلوث بالمعصية، سيراه يوم القيامة عند عرضه عليه لا قيمة له بالبتة، لقد كان يفتقد الوعي الذي يجعله ناظرا لعواقب الأمور.

فأي مشهد رهيب يواجهه في ذلك اليوم العظيم، فكل موازين العلاقات الأسرية والاجتماعية وما كان يشعره به من أنس وأمان، لا وجود له إذ يشعر بالغربة والوحدة وهو يواجه لوحده جزاء عمله، فكل الروابط تتقطع إلا ما كان منه حبا في الله تعالى وتواصيا بالحق والفضيلة، وسعيد من استعد لذاك اليوم بمراقبة جوارحه والتوبة والإقلاع عن القبائح والمحرمات، راجيا عفو ربه والتجاوز عن سيئاته.

ولا يظنن أن المراوغة والنكران الذي كان في الدنيا يتهرب به عن الاعتراف والإقرار بفعله سينفعه، فأين المفر من شهود متعددين أولهم جوارحه تنطق بالحق، فما دفنته الأيام تحت رمالها واندثر سيراه مثبتا في صحيفة أعماله، فهل نحن - حقا - على أهبة الاستعداد والتهيؤ للمساءلة والتدقيق في ذرات أعمالنا؟

فلنضع بين أعيننا أهوال يوم القيامة حينما نقدم على أي حراك وفعل وكأننا على دكة المقاضاة والحساب، فلنتوقف عما نستحي من استعراضه أمام ذاكرتنا في الآخرة، فما نضيعه اليوم من أوقات لا يسجل لنا فيها عمل صالح، لن نملك عليه غدا إلا التأسف.