آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 4:57 ص

ما أضيقَ العيشَ لولا!

في قديمِ الزمان غضبَ حاكمٌ من أحدِ خصمائه فأمر غلمانه أن يضربوهُ مائتي سوط، فكادوا يأتونَ على نفسه من شدةِ الضرب، ولما أعاده للحبسِ احتالَ بعضُ أصدقائه في بصيرٍ بالعلاج ليداويه، فلما نظر المعالجُ إليه قال: أحسبه ضربهُ خمسينَ سوطاً، قال صديقه: إنه ضربه مائتي سوط، رد الطبيب: ما أظن إلا أن هذا أثر خمسينَ سوطاً، ولكن يحتاج أن ينامَ على حصيرٍ وأدوسَ صدرهُ ساعة. جزع المريضُ ثم أجابَ إليه، فداس الطبيبُ على صدرهِ وأخذ بيدهِ فجذبه حتى أقامهُ عن الحصير، فتعلق بها من لحمِ ظهره شيءٌ كثير. ثم جعل يعالجه إلى أن نظر إليه ذاتَ يومٍ وقد نبت في ظهرهِ لحمٌ جديد وبعدها برأ. قال الطبيبُ لصاحب المريض: لو ضُرب صاحبك ألفَ سوطٍ ما كان بأشد من ذلك الأثر وإنما قلتُ ضربه خمسينَ سوطاً لكي تقوى عزيمتهُ فيعيننَي على علاجه.

تضرب الأيامُ الناسَ وتجلدهم آلافَ الأسواطِ كل يوم، ولكي يبرأ جراحها ينفعهم أن يحتالوا على عقولهم ومشاعرهم بأنَّ في تغير موضع حرفِ الميم في كلمة ”الألم“ وقلبها إلى ”أمل“ أنفعَ شيءٍ للعلاج. ليس كل ألمٍ يستطيعَ أن يعاكسَ القدر أو يستقوي على المستحيل لكن الحلم بأن الغد سوفَ يأتي حاملاً معه البهجةَ والراحةَ هو ”مورفين“ وأفيونٌ يسكن الألمَ ويساعد الجهازَ العصبي المركزي على تقليل الشعورِ بالألمِ الحاد والألم المزمن.

مِنْ ”عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا ? إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ“ يأتي الأملُ في الغائبِ أن يعود، والمريض أن يصح، والتاجر أن يربح، إذا أن الخيارَ الآخرَ في الحياةِ أن نركلها ونموتَ قبل الأوان وحينها يتحقق كل الألم. في عالمنا اليوم ملايينٌ من البشرِ يحملون صوراً في جيوبهم ينظرونهَا كل يومٍ ويقولون: متى نلتقي؟ يحملون في عقولهم وقلوبهم ما كان يحمله البحارةُ في القديم، يحلمون بالصيدِ الوفير، يشمونَ رائحةَ النسيم ويقولون: ها هي رائحتهم جاءت تحمل البشرى، لنعمل ونكدحْ ونعود. ملايينٌ من البشرِ يقولون متى نشبع، ومتى نلبس، ومتى نسكن، ومتى نستريح؟ أسئلةٌ تتدثر بالأملِ أن يأتيَ صدى أصواتهم بأن كلما انقضت ساعةٌ من الظلامِ انبلجَ فجرٌ جديد.

أعلِّلُ النفسَ بالآمالِ أرقُبُها

ما أضيقَ العيشَ لولا فسحةُ الأمَلِ

لا ينقلب الألمُ املاً دونَ عملٍ، لكن ”داوها بالتي كانت هي الداءُ“ فما كان يبرأ جراحُ المضروب لم لم ينم على الباريةِ الخشنة ويتأوه، ويبقى الأمل محصوراً بين القلبِ والعقلِ في نهايتين، الأولى:

دع المقاديرَ تجري في أعَنّتها

ولا تبيتنّ إلا خاليَ البالِ

ما بين غَمضةِ عَين وانتباهتها

يغيّر اللهُ من حالٍ إلى حالِ

والثانية هي:

لَقَد حَرِصتُ بِأَن أُدافِعَ عَنهُمُ

فَإِذا المَنِيِّةُ أَقبَلَت لا تُدفَعُ

وَإِذا المَنِيَّةُ أَنشَبَت أَظفارَها

أَلفَيتَ كُلَّ تَميمَةٍ لا تَنفَعُ

كانت أمي تصنع وتزرع الأملَ فينا الصغارَ في جملةٍ قصيرة، كلما ضاق بها الزمان قالت: بكرة تكبر الصغار وتعمر الديار...
كن أمَّ نفسك وخاطب فيها أملاً تحيى به لغدٍ وبعد غد، وأنا سوف أكتب لك عندما يأتي شهر شباط وقد ملأت حرارةُ الشمسِ قلبينا وروحينا، هلا انتظرتني؟

مستشار أعلى هندسة بترول