آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 2:48 ص

يا حادي العيس مهلاً!

كان للشاعرِ أبو ذؤيب الهذلي خمسة أبناء أصابهم الطاعونُ وماتوا في سنةٍ واحدة كلهم. دَفَنَ ذؤيبٌ كل آماله في الدنيا معهم واستحكم الحزن فيه، حاكى الألمَ في أروعِ صورهِ ورثاهم في قصيدةٍ قال فيها:

أَمِنَ المَنونِ وَريبِها تَتَوَجَّعُ

وَالدَهرُ لَيسَ بِمُعتِبٍ مِن يَجزَعُ

قالَت أُمَيمَةُ ما لِجِسمِكَ شاحِباً

مُنذُ اِبتَذَلتَ وَمِثلُ مالِكَ يَنفَعُ

أَم ما لِجَنبِكَ لا يُلائِمُ مَضجَعاً

إلا أَقَضَّ عَلَيكَ ذاكَ المَضجَعُ

فَأَجَبتُها أَن ما لِجِسمِيَ أَنَّهُ

أودى بَنِيَّ مِنَ البِلادِ فَوَدَّعوا

أَودى بَنِيَّ وَأَعقَبوني غُصَّةً

بَعدَ الرُقادِ وَعَبرَةً لا تُقلِعُ

سَبَقوا هَوَىَّ وَأَعنَقوا لِهَواهُمُ

فتُخُرِّموا وَلِكُلِّ جَنبٍ مَصرَعُ

فَغَبَرتُ بَعدَهُمُ بِعَيشٍ ناصِبٍ

وَاخالُ أَنّي لاحِقٌ مُستَتبَعُ

لا ألمَ يضاهي ألمَ فقد الأصولِ فروعها لأمرين وهما: أننا نحن البشر نتوق الى الخلودِ في الدنيا في أنانيةٍ مستحكمة ونرى ذلك يأتي في فروعنا ومتى ما اغتالها الزمانُ فكأنما حكم علينا بالموتِ دون أن يذكرنا أحد. والثاني: أننا لا نتوقع أن نخسر فروعنا في حياتنا بل هم من يبقون بعدنا، يرثِونا ويرثُونا وليس نحن من نبقى بعدهم، فكأنما يصدم القدر من فقدهم. نحن نرى زهونَا وفخرنا وهيآتنا فيهم، كلما نظرنا في مرايا الحياةِ قلنا: الله، ما أجملنا فيهم!

يسلو من فقد أباهُ أو أمه ولكن تترك الفروعُ ندوباً لا تبرأ بعد سقوطها من الأصلِ ويموت الأصلُ بموتها. في علوم الهندسة يمكننا محاكاة الأشياءِ واستنطاقها بأن نخلق لها نظائرَ فعلية أو نظرية ولكن حالات الفرح والألم لا يمكن محاكاتها في النفس البشرية إلا  من قِبَل من ذاقَ حلاوتها ومرارتها، وتبقى نغمةُ طنبور الألم أقوى من رقة وترِ عودِ الفرح في كل الأحوال. في الدنيا ملايينٌ من الناسِ فقدوا فروعهم كلها أو بعضها، لا نسمع لهم قصائدَ ولا من يبلغ آلامهم ويحمل صورهم وصدى أناتهم. ومن ثم يموتون في صمتٍ يحسدونَ الشاعرَ على محاكاته ألمه وبثه في التاريخ، فكأنما أو ذؤيب وأم ذؤيب تناسخوا مراراً وتكرارً.

يسكن حجرات العقل والقلب الفكر والحزن والفرح وكل أحاسيس النفسِ والروح. وأنا خاطبتُ فيك ايها الانسان بعضها، أما اليوم أخاطب فيك الحزنَ أيها الشاب، الألم الذي يبقى لمن بعدك أن تُجرح فكيف أن ترحل. أمك وأبوك يزهوانِ بك وكلما نظرا إليكَ قالا: هذا لنا، فهلا رحمتهما وبقيتَ لهما!

يوم كنا صغاراً كم استرقنا النظرات لناظمِ الغزالي قبل سقوط الفن حتى في المعصية يغني الأدبَ العربي الرفيع في الألمِ لشاعرٍ به مسٌّ من الجنون:

لما أناخوا قبيلَ الصبحِ عيسهمُ

وحمّلوها وسارت في الدجى الأبلُ

يا حاديَ العيسِ عرِّجْ كي أودعهم

يا حادي العيس في ترحالكَ الأجلُ

لما علمت بأن القوم قد رحلوا

وراهبُ الديرِ بالناقوسِ منشغلُ

شبكتُ عشري على رأسي وقلتُ لهُ

يا راهبَ الديرِ هل مرت بك الابلُ

يا راهبَ الديرِ بالإنجيلِ تخبرنيْ

عن البدورِ اللواتي ها هنا نزلوا
فحن لي وبكى وأنّ لي وشكى
وقالَ لي يا فتى ضاقت بك الحيلُ
إن البدورَ اللواتي جئتَ تطلبها
بالأمسِ كانوا هنا واليومَ قد رحلوا
شبكتُ عشري على رأسي وقلتُ له
يا حاديَ العيسِ لا سارت بك الإبلُ
ليت المطايا التي سارت بهم ضلعت
يوم الرحيلِ فلا يبقى لهمْ جملُ

مستشار أعلى هندسة بترول