آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 1:33 ص

سُبُحات من شُرُفات

تختزن عيني وأذني مناظرَ متناقضة من الماضي والحاضر، فيها الكثير من بهجاتِ الماضي وشقاءِ الحاضر، وكأن عقاربَ الساعةِ في صراعٍ لتمنع البهجةَ من أن تصلَ الإنسانَ كاملةً دون نقص.

لم يكن في الستيناتِ من العام الماضي في مسقط رأسي ضجيج المركبات التي تسير في الشوارعِ كما الآن دونَ انقطاع، القليل منها كان يكسر جدرانَ الصمت ثم يعود الهدوء. ولم يكن للناسِ أجهزة تريحهم من الحر، وفي ذاتِ الوقت تأخذ منهم صفاءَ صوت ونظرات الأيام. كانت حياة الناس تبدأ مع بزوغ الشمس وتقف تقريباً مع طلوع القمر.

كنتُ الرسولَ الذي يشتري الخبزَ في كل صباح وكنت أمر بأحدِ شرفاتِ المنازل يجلسُ فيها رجلٌ يرتل القرآن. لم تكن الشرفة عاليةً أو الرجل كبيراً في السن ولكن عندما تكون صغيرَ الحجمِ والسن فكل شيءٍ وكل شخصٍ يبدو أكبر. كان صوته يقيد رجلايَ في الصباح، ويأتي كاملاً لا يشاركه في أذني آلةٌ أو مركبة. أنا لم أرى جدي، وكم جاشت وتاقت روحي أن أسمعهُ يتنفس هواءَ الصباح ثم يخرجه مزاميرَ يقرأ فيها آيات تبعث الهدوءَ في نفسي أو حتى أسمع همهمتَه في العتمة. عينيَّ لا تزال تحفظ  تفاصيلَ وجهَ ذلك الرجل وتفاصيلَ الشرفةِ منذ أكثر من خمسينَ سنة.

لم يكن الرجل الوحيد الذي يجلس مستنداً إلى جدارٍ فوق شرفة ونسمع صوته آنذاك، لكنه الذي كنت أراه كلما احتجنا الخبزَ أو ارتيادَ الماء قبيل طلوع الشمسِ من كل صباح. وأنا أجلس الآن داخلَ منزلي، الأبوابُ مغلقةٌ ولن يسمعني حفيدي ولن يراني لأن العينَ لن تستطيعَ فرزَ المشاهد العديدة والرتيبة من مرورِ المركبات، ولم تعد الأذن تفرق بين صوتِ من يقرأ القرآنَ أو يطرق بالمطرقة.

هي ضريبةُ وسائلِ الراحة التي لابد منها، لكنها تأخذ منا صفاءَ الطبيعةِ في الصوتِ والصورة فلا نرى ولا نسمع سواها. أصبح العيشُ مستحيلاً دونَ الوسائط التي تجلب الراحة، ومن ثم لم نعد نرى ونسمع أصواتَ الرجالِ في الشرفاتِ يقرأونَ القرآن قبل شروقِ الشمس. أحببنا الآلةَ وجلبناهَا في كل تفاصيل حياتنا، أحيينا الآلة ومتنا، وكلما تقنا إلى حياةِ الصمتِ وبراءة المشاهد هربنا بعيداً عنها للصحراء!

يظن ساكن المدينة أنه لا مكان في الصحراءِ لإمتاعِ الروح في ظل صراعِ البدوي الدائم مع مقومات البقاء، ولو نظر إلى ليالي الصحراء في أقمارها والشجيراتِ الممتنعة على الموت ترسل نغماتها لا تصدها حواجز نواطح السحاب من الحديدِ والإسمنت لما رغب إلى سواها، ألا ترى أن الإنسانَ على الدوام يظن الجانبَ الآخرَ ممرعاً وأكثر نضارة؟

مستشار أعلى هندسة بترول