آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 11:37 ص

جمال النقص

هل اعتبرتَ يوماً الجهلَ أو المرض مفيداً وفيه شيءٌ من الجمال؟ ليس المقصود تمامَ الجهلِ والمرض المهلك وحتى ذاك قد يكون فيه فائدة! إذا فكرنا بأنه ليس في النقصِ سوى السلبية المطلقة، فكيف نعرف النورَ إلا من الظلام والحركةَ إلا من السكون؟

ليست دعوة للجهلِ أو الوقوف عن الكمال، ولكن دعوة للنظر في بداعةِ ما لم يكتمل في جماله. هل سركَ يوماً أن تقرأَ قصيدةً رائعة وكان لك رأي فيها، أو نظرتَ لوحةً مكتملةَ المناظر وأشرتَ بإصبعك إلى ما غفل عنه الرسام؟ ماذا لو لَبِسَ قيسٌ منظاراً يريه تجاعيدَ وجه ليلى التي كبرت مع السنين، هل سوف يكتب الشعرَ أم سوف يمزق كل ما كتب؟ ألا تظن أن جهلك بحقائق أصدقائك ومن تحب أرفق من علمك بأنهم ليسوا كما ظننت؟

لو لم يكن في حياة البشر الحاجة للركض نكاد نجزم أنهم يبقونَ جالسين لا شيء يدفعهم للركض وربما أهلكهم الجلوس ولو لم يحتاجوا أن يشعلونَ شمعةً في الظلامِ لم يهتدوا الطريق. إذاً في الجهلِ النسبي جمالٌ نسبي أيضاً وهو أنه يعرفنا الطريقَ إلى الكمالِ وبدونه لن تكون لنا حاجة لمعرفة الكمالِ الذي نسعى له.

ثم أن النقص يكشف حدودَ إنسانيتنا في المعرفة، وهناك أشياء لن نصلَ إليها مهما نازعناهَا، فمثلاً سوف يهلك كُلُّ ذي روح ولن يصل العلمُ إلى معرفةِ الطريقِ نحو عين الحياة، وحتى مع علمنا أننا لا نموت دونَ سبب فلن نستطيع انتزاع أسباب الفناءِ كلية. نعم استطاع الطب في الجمالِ النسبي للآفاتِ التي كانت تصيب البشرَ أن يقضي على المسبباتِ لكثيرٍ من الأمراضِ التي فتكت بالكثير قبل أن توجد العلاجات.

من منا يرغب في الضغط النفسي الذي اعتبرناه دوماً الصديقَ السيء في حياتنا؟ لكن الجمالَ في هذا القبيح كثيرة، إذ هو يساعد أدمغتنا على النمو إنطلاقاً من مقولة ”ما لا يقتلك يجعلك أقوى“، ويحسن من ذاكرتنا في معرفةِ المخاطرِ التي تحيط بنا والنجاةَ منها ويمدنا بالطاقةِ التي تحفزنا على الفوزِ والانتصار، كما يؤكد الأطباء أن الضغطَ النفسي المناسب يمنح أجسامنا مناعةً من الإصابة بالمرض، ويمنحنا الثقةَ بأنفسنا ويحفزنا على التأقلمِ في بيئاتٍ مختلفة والأجمل من هذا كله أن الضغطَ النفسي يجعلنا نتحمل الكثير منه بالممارسة.

عدم الوصول للكمالِ يجعلنا في سعيٍ دائمٍ إليه ويعرفنا حدود بشريتنا إذ أننا لن نصل إلى رأس الهرم في المعارف، ويكفينا أن نصل إلى نقطةِ انعدامِ الجدوى، أي بمعنى أن هناك في كل شيءٍ نقوم به طاقةٌ مستثمرة وعائدٌ من الربحِ يزداد بازديادهَا وبعد تلك النقطة يفوق استثمارنا ما يعود علينا بأضعاف، ولا يمكننا التقدم، فمثلاً لو أردتَ أن تكتبَ مقالاً مكتمل العناصر، ولست بارعاً في الكتابة، وتفحصتَ كل كلمةٍ في المعنى والذوق لما استطعتَ إنجازها في مدةٍ معقولة، فيجب عليك أن تقف عند حدودِ المعقولِ وإلا لن تكمل سطراً واحداً.

جمال النقص أن نعرفه ونهرب منه، والخطر ألا يكون مقياسنا سليماً لمعرفة السم  المدسوس في العسل واستخلاصه وإدراك أن الجهل هو الأرض المحرمة التي يجب ألا نبقى فيها...

مستشار أعلى هندسة بترول