آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 5:41 م

أجراسُ الهوان

المهندس هلال حسن الوحيد *

كان في الماضي القديم جزاء بعض الأفعالِ أن يُطاف بفاعلها على حمار، وسميت العقوبة ”التجريس“ لأن من يشهر بهم يصحبهم شخصٌ يحمل جرساً يدقه لتنبيهِ الناسِ إليهِ وإلى المشهر به ليكونَ أبلغَ في العقابِ والإهانة. يُهيئ الشخصُ الذي يحمل الجرسَ الشخصَ المراد التشهير به بإلباسهِ لباسَ شهرةٍ ووضع الخرقِ الملونة عليه وطرطوراً على رأسه، وربما يرافق ذلك قردٌ أو قردان يوضعان مع المشهر به إذا ما تم تشهيره في قفصٍ ليقوما باللعبِ عليه وصفعه إمعاناً في إذلاله في وضعٍ مزرٍ يعرضه للتشنيعِ والاستخفاف وإحالته شهرةً وفرجةً للناظر.

ذهب الحمارُ الذي كان يقتنيه الناسُ ويعتنونَ به ويزينونه واختفت عقوبةُ التشهير بركوبِ الحمارِ في كثيرٍ من الأماكن التي كان الحمارُ يعيش فيها. وقد عملت مع شابٍ من الهند قال لي انهم لا يزالونَ يحتفظونَ بأعدادٍ قليلةٍ من الحميرِ في قريتهم والعقاب القاسي هو إركاب الجاني على الحمار. لابد أن الحرجَ في ذكرياتِ التشهيرِ يدومُ طويلاً وندوبه لا تبرأ سريعاً، لكنه في السابقِ لم تكن هناك أدواتُ تسجيلِ الأصواتِ والصور والقرى تبعد مسافاتٍ طويلة عن بعضها، فينحصرَ التشهيرُ في المكانِ والرائي والزمانِ ويتكئ على ذاكرةِ المدونين التي وإن دخلت الكتبَ تبقى في حدها الأدنى.

تعددت اليوم وسائلُ التشهيرِ الإجتماعية التي كانت تشبه الحمار في العصرِ القديم، ولا يمكن حصرها في المجلس أو القرية، إذ في أيِّ منظر تتواجد الصورةُ والصوتُ في كل التفاصيل وفي أغلبِ الأحيانِ يُجتزأ ويُشوه الحدثُ من أجلِ سرعة الإنتقال. لم تعد هناك ملكية الأقوالِ والأفعال التي أصبحت تنتقل عبر المدنِ والقاراتِ حالة حدوثها ولا يغيب الجرسُ الذي يُضفي عليها الإيضاحَ في التكبيرِ والتضخيم.

ما كان يسمعهُ شخصٌ واحد في الأمسِ بعد شهرٍ يراه ملايينٌ من الناسِ قبل أن يقوموا من مقامهم والأخطر أن الحدثَ ينتقل إلينا من الجهات الستة، نراه مرةً ثم أخرى ونحكم بتواترهِ وصحتهِ ودقته، ومن ثم نقوم بروايته وإن كانت لنا براعة في الكلماتِ نضيف له جرساً آخر. لا يهم من يُركب حمار التشهيرِ في العصرِ الحاضر، شيخٌ أم شاب، رجلٌ أو إمرأة، غنيٌّ أو فقير، حيٌّ أو ميت! والحظ الأوفر لمن يكون أجمل في الصوتِ والصورة التي تعطيه البراءة وتعطينا البعد الإنساني في بثها، ولو عرف صاحبها من تصل إليه لعنَ اللحظةَ التي اكتشف فيها الإنسانُ آلةَ تسجيلِ الصوتِ والصورة.

تَنقل الصورُ المزريةُ لنا كل يومٍ مشاهدَ البؤس ولحظاتِ الضعف عند أناسٍ لم يدر في خلدهم أن أحداً يراهم في تلك اللحظاتِ التي لم يختاروها ونحن نستظرف التشهيرَ والإذلال ونغلفه باغلفةٍ إنسانية لا تغني ولا تسمن. والأشد مرارةً من يَركب حمارَ الشهرة طواعيةً في مناظرَ تملؤها التفاهاتُ غير عابئ  بحكمةِ وصواب:

وأكرم نفسي عن أمور كثيرة

ألا إن إكرام النفوس من العقل

لا يُلام المأخوذ قسراً، ولكن يلامُ ذاك الذي قال فيه المتنبي ”مَنْ يَهُنْ يَسْهُلِ الهَوَانُ عَلَيهِ …. ما لجُرْحٍ بمَيّتٍ إيلامُ“، فليذهب هو والحمار!

ذهب الحمارُ بأم عمرو

فلا رجعت ولا رجعَ الحمارُ

مستشار أعلى هندسة بترول