آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 4:37 ص

لا أدري

المهندس هلال حسن الوحيد *

تأتي أحكامنا وأفعالنا ناقصةً عندما تكون معارفنا ناقصة، والهلكةُ تأتي حين نظن أننا عرفنا كل شيء ولا حاجةَ للمزيد فقد فاضت طاسةُ رأسنا بالحكمةِ والخبرة، بل ربما أفضناهَا على غيرنا في الوعظِ والإرشادِ والتنوير وفيما يجب وفيما لا يجب! علينا أن ندركَ حدودَ المدى والحرية التي تعطينا إياها أنصافُ المعرفة في إدعاءِ كل المعرفة والحقيقة، وأن لمعانَ صفر الجهلِ لا يحيل عنصره ذهباً.

ركب رجلٌ وابنه الشاب قطاراً حيث جلس الإبنُ قربَ النافذة وإلى جانبه جلسَ والده. بدا الشابُ وكأنه طفلٌ يسأل عن كُلِّ شيءٍ يراه للتو! يصرخ ويضحك، خزانٌ من الفرحِ والبهجة. أخرجَ الولدُ يديه من النافذةِ ليستشعر الهواءَ وهو ينظر إلى الأشجارِ التي تمر سريعاً ويصرخ: أبي هل ترى الأشجارَ التي تسير معنا وخلفنا؟ نعم، أجابَ الوالدُ المسرور بأن ابنه ممتلئ بالفرح.

مَرَّت الرياحُ على وجهي زوجانِ كانا يجلسانِ بالقربِ من الشاب وأبيه ولم يطيقا أن يكونَ في الدنيا شابا في زهوِ وحركةِ طفلٍ صغير. لم ينثني الإبنُ عن فرحته حين رأى منظرَ العجولِ والخيولِ والحيوانات التي مرت في المروجِ من جانب القاطرة، ومرةً بعد أخرى يفرح الأب ويزداد حنقُ الزوجين: كم هو قلة أدبٍ أن يكون شابٌ في عمر طفلٍ يركب القطار ولا يردعه والدهُ عن مضايقةِ المسافرين؟ جاء المطرُ وتساقطت قطراتٌ منه على وجهِ الشابِ ويديه الذي صرخَ مرةً أخرى: أبي إنها تُمطر والمطر يسقط على يدي!

ضاقَ الزوجانِ ذرعاً بالولد وأبيه ولم يستطيعا الصبرَ عليهما. تقدم الرجلُ من الأب وقال له: لماذا لا تقوم بزيارةِ الطبيب والحصول على علاجٍ لإبنكَ الذي يبدو أقلَّ عقلاً وحكمةً من سنه؟ صمتَ الأبُ ثوانٍ قليلة وقال له: إننا للتو قدمنا من زيارةِ الطبيب حيث أن ابني الذي كان أعمى أصبحَ بصيراً ولأولِ مرة يرى العالمَ بعينه الذي كان يراهُ بأعينِ الناس..

عندما تكون الحقائقُ غائبةً عنا ليس لنا الحكم باليقينِ في النتائجِ والاستنتاجات. في رمزيةِ الشاب ووالده لم تجري حروبٌ تطحن البشر أو عداواتٌ تسكن القلوبَ عشراتِ السنين، ولكن هذا ما يمكن أن يحدث وليس علينا سوى أن نقلب صفحاتِ التاريخ واليوم والغد لنرى ما يحدث عندما ندعي مطلق المعرفةِ بينما نحن من يخاطبنا أبو نواس:

فقلْ لمنْ يدَّعِي في العلمِ فلسفة ً

حفِظْتَ شَيئًا، وغابَتْ عنك أشياءُ

عندما كنا طلاباً كان الأساتذةُ الرحماء يعطونا علامةً جزاءَ محاولةِ الوصولِ إلى الإجابةِ الصحيحة أو إلى شيءٍ منها، ولكن ليس واقع الحياة هكذا، بل واقع الحياة مثل ذاك الذي اشترى كتابَ تعلم الطيران واستأجر طائرة. كان في غايةِ المتعةِ والبهجة ?لافَ الأمتارِ فوق الأرضِ ولما أراد أن يتعلمَ الهبوط قلب الصفحةَ الأخيرةَ في الكتابِ وكان فيها ”لكي تعرف كيف تهبط عليك أن تشتري الجزءَ الثاني من الكتاب“ الذي لتمامِ خيبته لم يكن اشتراه بعد!

لا يقتلنا نصفُ العلم، بل تبا لنا حين يقتلنا نصفُ الجهلِ الذي يصور لنا أن فيه كمال المعرفة وتمامها…

مستشار أعلى هندسة بترول