آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 4:57 ص

اليوم العالمي للإذاعة

أثير السادة *

بينما يحتفل العالم باليوم العالمي للإذاعة تأخذني ذاكرتي إلى تاريخ بعيد من يوميات الطفولة لأستعيد أول صفقة تجارية أنجزتها على غرار اقتصاد المقايضة، حيث بادلت صديقاً من أصدقاء الحي سيارتي ذات الريموت بمذياع صغير يستقبل كل الموجات، لم نعهد في تلك الأيام السيارات اللاسلكية بعد، أو ربما لم تكن في دائرة الإمكان بالقياس إلى حجم جيوبنا الصغيرة، لذلك كانت السيارة الحمراء من ذوات الأسلاك، نفرح لقدرتنا على تحريكها لكنها في النهاية تجرنا معها.

وجدت في تحريك مولف المذياع متعة كمتعة تحريك السيارة، استقبلته بحب، ورحت أدوزنه بحثاً عن المحطات التي تسكن فيه... كبرت العلاقة مع المذياع وأنا أقطع الطريق إلى سنوات المراهقة، أبحث عن أصوات يحجبها التشويش، وأسند ظهري في نهارات رمضان على صوت المذيع الأهوازي الذي يطل في سويعات قليلة في كل يوم.. شيئا فشيئا أصبح المذياع رفيق السهر، توصد القنوات التلفزيونية أبوابها، فيظل المذياع وحده ساهرا هناك، تأخذنا حماسة التدين للبحث عن موجات بعينها، شيء يشبه البحث عن امتدادات تشبهنا فيها، فأصغي لأذان الفجر من ط هـ ر ان وينتابي الخشوع وأنا أكمل الاصغاء لصلاة الفجر كاملة بعدها.

دخلت باب المراسلات في مرحلة الثانوية، فكاتبت البرامج الاذاعية في إذاعة السعودية والبحرين وقطر والإمارات وط هـ ى ا ن.. كانت مجرد رغبة لتمرير هذا الإسم التائه في زحام الحياة في فضاءات الأثير، هنا أحدثهم عن حكمة، وهناك عن خاطرة، وفي الأخرى أكمل حل الكلمات المتقاطعة، كان الإسم والتعريف به أول الوعي بالذات، تستوحش هذه الفرادة فيه، فتبحث عن ما يذكرك بحضوره في الناس..

حرب الخليج الثانية، أو حرب تحرير الكويت، كانت دافعا لتوجيه الدفة ناحية قنوات الموجة القصيرة، أمضيت يوميات الحرب متجولا بين قنوات العالم، بحثاً عن يقين غير موجود في اتجاهات الحرب، سجلت في دفتر صغير ساعات البث لكل قناة، فالقنوات العالمية التي كانت تبث باللغة العربية يقتصر وقت بثها على عدد قليل من الساعات.. اليابان والبرتغال والصين وهولندا وسواها من القنوات التي كان اصطيادها في المذياع الروسي لا يخلو من المتعة والنشوة.. حدثتني نفسي في بعض المرات بتسجيل بعض البرامج بالمسجلة، وفي مرات أخرى اندفعت لمراسلتها، وفي مقدمتها هولندا التي أحببتها لا لشيء سوى أنها قدمت حوارات مع جعفر الشايب وعيسى المزعل وسعت لتغطية نشاطات هذا الفريق في تلك الحقبة.

توسدت المذياع طيلة السنوات التي مرت، أحببت أصواتاً كما أحببت إذاعات بعينها، تطورت الحساسية تجاه الإذاعات ولم تتبدل العلاقة منذ لحظات الصبا، أنا الذي كنت أغفو في ظهيرات الجامعة على صوت غازي عبدالمحسن وأمينة حسن، وأقضي الليل على دقات بيغ بن، كنت أدهش لأشياء كثيرة تمر من موجات المذياع، للأخطاء اللغوية التي تتناثرت في أصوات المذيعين، لدعاية الويسكي في إذاعة الشرق من لبنان، وللارتباك المتكرر في قراءة إسمي من قبل المذيعين الذين ضيعوا علي طموحاتي بأخطائهم!.

لا أذكر اليوم عدد أجهزة المذياع التي اقتنيتها، ولا أذكر كم رسالة وصلت ورسالة لم تصل كنت قد أرسلتها، لكني أذكر بأني حلمت مراراً بأن أكون مذيعا، يقرأ الأخبار، ويكتب البرامج، ويسهر خلف المايكرفون، ولم يبق من تلك الأحلام إلا الاستمرار في توسد المذياع، وتذوق الأصوات، واسترجاع الذكريات، والذهاب بعدها في نوم عميق!.